الأحد، 23 نوفمبر 2008

أوقاف النساء.. ميراث من الفاعلية

فاطمة حافظ
هناك افتراض شائع مؤداه أن حالة من السلبية والتواكل والانكفاء حول الذات قد غلبت على مشاركة المرأة في التاريخ الإسلامي، وهو الافتراض الذي تحول إلى قناعة رسختها سلسلة من الأدبيات التاريخية مثل: ألف ليلة وليلة، والمؤلفات الباكرة للمستشرقين. وتمتد حالة السلبية والاستضعاف إلى الواقع المعاصر -وفقا لرؤية الأمم المتحدة - التي تجمع تقاريرها أن المرأة المسلمة تعاني من التهميش التاريخي المتجذر في بنية الثقافة الإسلامية، وبفعل التهميش تم إقصاؤها من عملية التنمية واستبعادها من المشاركة في الموارد الاقتصادية. وإذا ما أريد النهوض بواقع المرأة ينبغي أن يتم دمجها في عملية التنمية الاقتصادية إذ هي السبيل الوحيد للنهوض بأوضاعها.
تلك بإيجاز مجمل رؤية المنظمة الدولية لواقع المرأة المسلمة، وإشكاليتها الأساسية تجاهلها أن تعدد الثقافات لابد أن ينتج عنه اختلاف في أشكال الممارسة التاريخية، ذلك أنها تنطلق من رؤية أحادية للتاريخ هي الرؤية الغربية ، وعلى ضوئها تتم محاكمة ومقاضاة تاريخ الشعوب والحضارات الأخرى، فما توافق منه مع التاريخ الغربي اعتبر تقدما وما اختلف عنه عُد تخلفا.
وانطلاقا من تلك الرؤية المبتورة أحجمت الأمم المتحدة عن النظر إلى الوقف باعتباره تجربة تنموية إسلامية، وخبرة تاريخية لم تعهدها الحضارة الغربية، وتجاهلته كلية في إطار تقاريرها وبياناتها التي تصدرها والمعنية برصد واقع التنمية في البلاد الإسلامية وعلاقة المرأة بها؛ وهذا الإحجام له ما يبرره إذ أن الإتيان على دور المرأة في الوقف يبدد الادعاءات القائلة بتهميش المرأة وينفي سلبيتها ويبرز فاعليتها. وإزاء هذا التجاهل فإننا نجد أن هناك ضرورة ملحة في التعريف بماهية الوقف وإسهام النساء خلاله.
الأوقاف: المنشأ والوظيفة

الوقف لغويا هو الحبس، ويعني في الشريعة حبس المال أو وقفه سواء كان على شكل عقار أو محل تجاري أو غيرهما لينفق من ريعه على من يحتاج من طلاب العلم أو اليتامى والأرامل وغيرهم كنوع من أنواع الصدقة الجارية.
وقد تزامن ظهور الوقف مع البدايات الأولى لتشكل المجتمع الإسلامي بمؤسساته وتنظيماته فلم ينشأ سابقا عنه أو لاحقا له؛ إذ روي عن الإمام الشافعي قوله "لم يكن أهل الجاهلية يوقفون". وينظر إلى الوقف باعتباره المؤسسة الإسلامية الأكبر لرعاية الفئات والشرائح المجتمعية الأضعف في المجتمع (الفقراء، اليتامى، الأرامل) وهو يتسم بصفات خاصة تميزه عن غيره من تنظيمات المجتمع المدني الحديثة الوافدة من الغرب، ومن أهمها
1- الوقف نظام (عقائدي/اجتماعي) ارتبط بالقيم القرآنية مثل التراحم، التواد، الإحسان وميزته الأساسية أنه استطاع الانتقال بهذه القيم من الإطار النظري إلى حيز الممارسة الواقعية التي جسدتها مؤسسات الوقف الخيرية.
2- انتشر الوقف في جميع أنحاء العالم الإسلامي دون استثناء فأينما وجد الإسلام وجد معه الوقف، وبفعل انتشاره لم تكن المشاركة فيه قاصرة على فئات بعينها دون أخرى فقد أسهم فيه ذوي الشرائح الوسطى إلى جانب الأغنياء، كما انخرطت فيه النساء إلى جوار الرجال سواء بسواء.
3- وفر الوقف مساحة الاستقلالية للمجتمع في مقابل الدولة؛ ولذلك عندما عجزت الدولة عن الوفاء باحتياجاتها في فترات تدهورها استطاعت المؤسسات الوقفية أن تنهض بهذه المهمة بديلا عن مؤسسة الدولة؛ فكانت لها اليد الطولى في مجالات مثل: التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.
4- يتسم الوقف بالأصالة والعراقة فقد نشأ في ظل الأمة وتطور معها وأوجد له منظومة فقهية كاملة تدور في فلكه، وبالتالي هو ليس مفهوما وافدا وطارئا مثل " المجتمع المدني" الذي يفتقر إلى الشرعية الدينية والقبول الاجتماعي حيث أن بعضا من أسسه لا تتفق مع المبادئ الإسلامية.

الفاعلية النسائية

المتابع لموضوع الوقف لا يدهشه حجم المشاركة النسائية الواسعة فيه سواء من حيث المبادرة إلى بناء الأوقاف أو إدارة المنشآت الوقفية. وهو ما يفسره البعض على ضوء الطبيعة العاطفية للنساء وأنهن الأكثر تأثرا بحاجة الغير، على حين يرجعها آخرون إلى الفاعلية النسائية والرغبة في الإسهام العمراني الذي حث عليه الإسلام.
وتعود الإسهامات الوقفية النسائية الأولى إلى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن فهن أول من أوقف من النساء، على حين تؤول أول إدارة نسائية للوقف إلى أم المؤمنين السيدة حفصة رضي الله عنها التي عهد إليها الخليفة عمر بن الخطاب بمهمة الإشراف على بعض الأوقاف التي يملكها في حال وفاته؛ فدلل هذا على جواز ولاية المرأة للوقف.
على امتداد التاريخ الإسلامي لم تتوقف إسهامات النساء في الوقف، وكما تشير الإحصاءات فإن أوقاف النساء تبلغ حوالي 25 بالمائة من حجم الأوقاف الحالية في العالم الإسلامي، ويبدو أن هذه النسبة تمثل متوسط المشاركة النسائية إذ ترتفع النسبة في الدول الخليجية حتى تصل إلى 40 بالمائة. وهو إن دلل على شيء فهو أن نساء الخليج لسن سلبيات كما تروج وسائل الإعلام، وإنما يشغلهن هاجس المشاركة في العمل العام ولكنه يظل مضمرا في ظل التغطية الإعلامية المبتورة.
الاستثمار في المعرفة

عرف عن النساء أنهن أوقفن في كافة مجالات الوقف فلم تكن إسهاماتهن قاصرة على مجال دون آخر ولكننا نلمس أن هناك حضورا نسائيا مميزا في مجال إنتاج المعرفة ونشر العلم ويكفي أن ندلل على ذلك بالسيدة فاطمة الفهرية التي أوقفت لبناء جامع القرويين الذي أضحى أول جامعة في المغرب العربي.
ومن فاطمة الفهرية في القرن السابع الميلادي إلى فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل في القرن العشرين التي أوقفت لبناء جامعة القاهرة العريقة؛ مرورا بعدد ضخم من الواقفات في مجال إنشاء المدارس والمكتبات، نلمس امتداد تاريخيا وتراثا من الفاعلية النسائية متصلا من السلف إلى الخلف يعبر عن الإيمان بالرسالة الحضارية للأمة.
المشاركة النسائية بين الانضباط والانحراف

وعلى الرغم من اتساع دور النساء الوقفي؛ فقد ظل هذا الدور منضبطا على الدوام بضوابط معينة لم تحرفه عن مساره، فقد انطلق من الإسلام وقيمه، وارتبط بالأمة وقضاياها، ولم يتحول في أي مرحلة من مراحله إلى إنتاج خطاب نسوي ينفلت عن خطاب الأمة العام أو يشذ عن ثوابتها الأخلاقية، ولم يجد يوما أي أرضية تجمعه مع أعداء الأمة. وهو ما تفتقر إليه الممارسات النسوية المعاصرة التي تبنت الطرح الغربي الذي تروج له الأمم المتحدة، فانتهجت بذلك سبيلا يشق الأمة ويفرق بين نساءها ورجالها، وتبنت مزاعمه بشأن سلبية دور المرأة في التاريخ الإسلامي دون أن تنظر إلى الوقف باعتباره نموذجا تجلت فيه الفاعلية النسائية في أوضح صورها.
نشر بموقع لواء الشريعة

ليست هناك تعليقات: