الجمعة، 21 نوفمبر 2008

مسابقات الجمال والتمركز حول الجسد

فاطمة حافظ
مع صعود تيار العولمة بدا واضحا أن هناك إفراطا في التركيز على الجسد الذي أصبح محورا للاهتمام من جانبين:
الأول ثقافي: ويجد صداه في تركيز بعض المؤسسات الثقافية على اعتبار الجسد موضوعا للبحث فبدأنا نسمع عن انعقاد مؤتمرات وإصدار كتابات تحت عناوين: الجسد المقهور، الجسد المهمش، العنف الجسدي، فلسفة الجسد وما إلى ذلك من عناوين لا تحمل أي مضمون علمي حقيقي.
والثاني مادي: ويجسده محاولة إعادة تشكيل الجسد من خلال عمليات تجميلية تمهيدا لإبرازه عاريا، وهناك طلب متزايد على الخضوع لتلك العمليات حتى أضحت تجارة رائجة تحقق أرباحا طائلة إلى الدرجة التي دفعت بعض البنوك إلى تقديم قروض مالية تيسيرا على الراغبات في إجرائها والولوج إلى عالم الجمال. وهكذا ادخل الجسد دائرة علاقات السوق وانتزعت قداسته وأضحى سلعة خاضعة للتقييم والفحص والمعاينة من خلال مسابقات الجمال التي لم تعد قاصرة على النساء وإنما طالت الرجال مؤخرا.

إن فكرة اختيار فتاة شابة وتتويجها على عرش الجمال عادة أوروبية موغلة في القدم؛ فالمرأة الجميلة ترمز للقارة الأوربية ذاتها كما ورد في الأساطير الغربية القديمة؛ ومن ثم فإن الاحتفالات باختيار الفتيات كانت تأخذ طابعا قوميا ودينيا واضحا.
وتعود مسابقات الجمال المتعارف عليها حاليا إلى عام 1921 حين نظمت ولاية أتلانتا الأمريكية أول مسابقة من نوعها لاختيار ملكة جمال للولاية، وفي العام التالي تحولت المسابقة إلى مسابقة لاختيار ملكة جمال الولايات المتحدة. وبعد مضي عقود أخذت الفكرة طريقها نحو العالمية على يد البريطاني إريك مورلي الذي نظم مسابقة (miss world) للمرة الأولى عام 1951، وفي العام التالي مباشرة تم تنظيم مسابقة ملكة جمال الكون (miss universe) واستمر الأمر في التوسع حتى بلغ عدد المسابقات العالمية أربع مسابقات، هذا بخلاف المسابقات المحلية التي تنظمها كل دولة على حدة ويتم من خلالها تصعيد الفتيات المشاركات في المسابقات العالمية.


المسابقات في العالم الإسلامي

عرفت هذه المسابقات سبيلها إلى العالم العربي أواخر الثمانينات مع بدايات المد العولمي؛ ففي عام 1987 نظمت إحدى الشركات أول مسابقة من نوعها في مصر وذلك على نطاق ضيق وشبه سري واستمر الحال على هذا النحو إلى أن تمت النقلة النوعية لهذه المسابقة عام 1998 بحصولها على توكيل منظمة ملكة جمال الكون وبموجب ذلك أضحت الفتاة الفائزة تشارك في المسابقة العالمية التي تعدها المنظمة.
رافق هذا تبدل مماثل على صعيد وسائل المسابقة التي تخلت عن السرية وحظيت بتركيز إعلامي مفرط، ومن المعروف أن عدد المتقدمات قد ارتفع من بضع عشرات مع بدء انطلاقها إلى أن بلغ 850 فتاة عام 2005، وقفز العدد فجأة إلى ما يربو على ألفي فتاة في الدورة الأخيرة 2007. وتلك الزيادة المضطردة يمكن تفسيرها على ضوء أن بعض الأسر أصبحت لا ترى غضاضة في مشاركة بناتها في هذه المسابقات إذا كانت ستكفل لهن أن يصبحن مقدمات برامج أو ممثلات معروفات كما حدث فعليا مع بعض القائزات.
ولعل هذا ما ضاعف من حدة الانتقادات الموجهة إليها والتي وصل بعضها إلى البرلمان المصري (مجلس الشعب) عدة مرات. وبعد أن كان الحديث يجري همسا ودون قرائن عن المخالفات الأخلاقية للمسابقة أصبح الآن جهرا مع تقدم عدد من المتسابقات في العام الماضي ببلاغ للنائب العام يتحدثن فيه عن مخالفات شرعية وفضائح أخلاقية شابت فعالياتها، ومن الواضح أن ذلك لم يفت في عضد اللجنة المنظمة للمسابقة التي أعلنت عن أنها تنوي الاحتفال بمضي عشر سنوات على هذه المسابقة خلال مسابقة العام الحالي 2008.
ويبدو أن هناك توجها نحو تعميم هذه المسابقات ونشرها؛ فبعد أن كانت مصر ولبنان وحدهما من ينظمان هذه المسابقة عربيا شرعت المغرب منذ عام 1999 في تنظيم مسابقة مماثلة. كما جرت محاولة أردنية عام 2002 لإجراء أول مسابقة أردنية غير أن الاعتراضات الشعبية وضعف الإقبال على المسابقة (شاركت 6 متسابقات فقط) جعلا من تكرار التجربة أمرا مستحيلا.
وعلى امتداد العالم الإسلامي لم يكن إقرار هذه المسابقات هيناً ففي عام 2002 شهدت نيجيريا مواجهات دامية أسفرت عن سقوط مائتي شخص احتجاجا على إقامة مسابقة ملكة جمال العالم في دولة ذات أغلبية مسلمة وهو الأمر الذي اضطر اللجنة المنظمة إلى نقل المسابقة إلى القارة الأوروبية في مسعى لتهدئة الغضب الإسلامي.


تسييس مسابقات الجمال

انطلاقا من مطلع القرن الميلادي الجديد لوحظ أن هناك توجها لتوظيف مسابقات الجمال لخدمة أهداف سياسية؛ فمن جهة لوحظ الحرص على إقامة المسابقات الكبرى في بلدان مازالت تقاوم تيارات العولمة (نيجيريا، الصين) كما أضحى الفوز فيها محكوما بدواعي السياسة، وعلى سبيل المثال اعتبر فوز امرأة صينية بلقب ملكة العالم عام 2007 بمثابة حفز للصين على الانخراط في سلك العولمة والتغريب الكامل.
ومن جهة ثانية لوحظ انتشار هذه المسابقات في البلدان الواقعة تحت الاحتلال. ففي عام 2003 شاركت امرأة أفغانية مقيمة في الولايات المتحدة في مسابقة ملكة جمال الأرض مثيرة بذلك انتقادات شعبية حادة وبخاصة بعد ظهورها بلباس البحر على شاشات التلفزة العالمية، أما في العراق فقد شجعت سلطات الاحتلال على تنظيم مسابقة جرى التكتم بشأنها عام 2006، وما أن أشيع النبأ حتى تلقت الفائزة تهديدات بالقتل فاضطرت إلى التنازل عن اللقب والفرار خارج العراق، لذا جرى الاتصال بالوصيفتين ولكنهما خشيتا ذات المصير وأخيرا تم منح اللقب إلى المرشحة الرابعة التي شاركت في مسابقة ملكة جمال الكون.
ويبدو أن هذه المسابقة وجدت في العراق لتبقى؛ فرغم ما أصابها من فشل فقد أعيد تنظيمها في العام التالي تحت دعاوى نشر ثقافة السلام في مواجهة ثقافة الحرب والتدمير، دون أن يوضح مروجوها ماهية العلاقة بين الفتيات الجميلات وبين السلام وكيف يمكن أن تؤدي إلى إحلال السلام وإنهاء الحرب، ويبدو السؤال الأكثر جوهرية لماذا هذا الحث من سلطات الاحتلال على تنظيم هذه المسابقات وما هي النتائج التي تأمل أن تصل إليها؟.

الموقف الفقهي

في تعليق لشيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق رحمه الله على تنظيم أول مسابقة لملكات الجمال في مصر ذكر ما نصه: يا هول هذا الخبر وما حواه من استعراض لأجساد فتياتنا من سن 15-25 سنة؛ هل هذا عودة إلى النخاسة والرقيق الأبيض أوقفوا هذه المهازل إننا ندعو جميع المسئولين بالتدخل لوقف مثل هذه المهرجانات الفاسدة المشبوهة والله يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم. فواجب على أولي الأمر تجنيب بلاد المسلمين أسباب سخط الله تبارك وتعالى؛ والبعد عن كل ما يودي بشبابها وفتياتها إلى الهاوية والعياذ بالله.
أما الشيخ نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية السابق فقد أصدر فتوى بشأنها جاء فيها أن تنظيم هذه المسابقات "حرام.. حرام.. وغير جائز شرعًا بأي حال" واستند في ذلك إلى أنها من المعلوم من الدين بالضرورة وأن كل ما يؤدي إلى حرام فهو حرام وأنها مما لا تقره أخلاق الفطرة؛ وخروج بها عما جبلت عليه من العفاف والستر..

الأبعاد الفلسفية لمسابقات الجمال

يحمل الرفض الإسلامي في طياته ما هو أكثر من النظر لهذه المسابقات على اعتبار أنها تشيع العري والابتذال؛ فلا يمكن أن نعزو الفتاوى القطعية في تحريم هذه المسابقات إلى الجانب الفقهي فحسب رغم جلاله وأهميته ولكن هذه الفتاوى تعكس فهما ووعيا بأن هذه المسابقات تلخص رؤية مادية للإنسان: وجوهرها اعتبار الجسد معيارا للتفاضل بين البشر وهو ما يتنافى مع التصور الإسلامي الذي يرجع التفاضل إلى التقوى أي ما اكتسبه الإنسان بيده وعمله، وهنا يمكن أن نتوقف أمام بعض العناصر التي تستجلي طبيعة هذه المسابقات:
فمن جهة تتمركز هذه المسابقات بشكل أساسي حول الجسد الذي يعني المادة التي هي مقابل الروح ومنهما سويا يتشكل الجوهر الإنساني -وفقا للتصور الإسلامي- وتمركز هذه المسابقات حول الجسد واعتباره معيارا أوحد في التقييم الإنساني يعني أن الإنسان يتشكل أساسا من المادة وأنه لا أثر للروح في التكوين الإنساني، وحتى لو افترضنا جدلا وجود بصيص من الروح فإنها تكون في حالة تابعة للجسد، وليس العكس.
من جهة ثانية يرمز الجسد إلى المتعة ومن ثم يصبح التركيز على الجسد في جوهره تركيز على المتع الحسية ويصبح إشباعها هو غاية الوجود الإنساني ومنتهاه.
ومن جهة ثالثة وأخيرة هناك علاقة لا انفصام لها بين هذه المسابقات وبين الشركات الرأسمالية الكبرى التي تتخذ من أجساد الفتيات المشاركات أداة أساسية للترويج لمنتجاتها الاستهلاكية في تجسيد عملي لمبدأ تعظيم الربح -أحد المبادئ الكبرى التي تستند إليها الليبرالية الغربية-.
وبتدقيق النظر نجد أن (المادة والمتعة والربحية) يختزلون ثلاثتهم التصور الغربي في نظرته للوجود وللطبيعة الإنسانية؛ فكأن هذه المسابقات تستبطن رؤية كامنة وفلسفة وبالتالي لا يمكن النظر إليها بوصفها مسابقات ترفيهية غايتها الاحتفاء بالجمال الذي اختزل - وابتذل أيضا- في وجه جميل وجسد ممشوق دون أي اعتبار لأبعاد روحية أو أخلاقية داخلية.
إنه الجمال كما عرفته أسواق النخاسة والرقيق الأبيض فيما مضى وأحيته الحضارة الغربية مجددا.
نشر بمجلة الوعي الإسلامي، العدد 519 (نوفمبر، 2008).

ليست هناك تعليقات: