الأربعاء، 20 أغسطس 2014

قضية الاجتهاد في الفكر الإصلاحي: الكواكبي نموذجا



الدعوة إلى الاجتهاد ليست جديدة على الفكر الإسلامي؛ فمنذ القرن الثامن العشر أخذ العقل المسلم يعيد النظر جديا في مسألة الخلود إلى التقليد، حين شرع بعض الإصلاحيين في بعث قضية الاجتهاد عبر طائفة من المؤلفات؛ من قبيل "عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد" لشاه ولي الله الدهلوي (ت1762م )، و"إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد" للصنعاني (ت 1768م)، و"القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد" للشوكاني (ت1837م)، و"القول السديد في الاجتهاد والتقليد" لرفاعة الطهطاوي (ت 1873)، و"الإقليد لأدلة الاجتهاد والتقليد" لأبي النصر القنوجي الذي صدر عام (1879م).
ورغم انطلاقها جميعا من الدعوة إلى الاجتهاد فإن هذه المؤلفات تتفاوت فيما بينها؛ فدعوة الطهطاوي تبدو محاولة خجولة لم تذهب إلى حد الدعوة الصريحة له، كما أن بعضها استنسخ أفكار بعض؛ فالقنوجي نقل آراء الشوكاني، أما الطهطاوي فذهب إلى ما هو أبعد حين اقتبس أفكار السيوطي الواردة في كتاب "الرد على من أخلد إلى الأرض ونسي أن الاجتهاد في كل عصر فرض".

وإلى جوار هذه المحاولات الأولية يمكن رصد محاولات إصلاحية تالية في مقاربة موضوع الاجتهاد، وفي هذه السطور نعرض لرؤية عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902م) لهذه المسألة، والتي قدمها في كتابه أم القرى، وأطلق عليها "الاستهداء بالكتاب والسنة".

حضور الغرب

ومنذ البداية نلمح حضورا للغرب، أو بالأحرى إقحاما له في صلب مسألة إسلامية، حين يفترض أن دعوة الغربيين إلى الإسلام -التي عول عليها كثيرا- لن تغدو ممكنة إلا مع فتح باب الاجتهاد؛ فالكثير من الغربيين هجروا الكاثوليكية إلى البروتستانتية؛ لترجيحهم الاقتصار على الإنجيل والكتب المقدسة، وميلهم إلى الإيمان العقلي، وطرحهم الشروح والزيادات، وغالبية من تحولوا إلى الإسلام هم من البروتستانت الذين يميلون لاتباع الكتاب والسنة، ولا يثقون بقول غير معصوم في الدين. وحسب الكواكبي، فقد تركوا دين آبائهم وقومهم ليتبعوا دين محمد، لا ليتبعوا الحنفي أو الشافعي أو الحنبلي أو المالكي، وإن كانوا ثقاة ناقلين.
وإذا كان الكواكبي قد جعل من الغرب سببا رئيسا وراء الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، إلا أنه أسند دعوته إلى قاعدتين من قواعد الدين الإسلامي؛ الأولى: أن محمدا عليه السلام قد بلغ رسالته ولم يكتم منها شيئا، وبالتالي يحظر علينا أن نزيد عليها أو ننقص منها أو نتصرف فيها؛ بل الواجب أن نتبع ما قاله وما أقره وما أجمع عليه الصحابة. والثانية: أن دائرة حياتنا العامة يمكن التصرف فيها كما نشاء، مع رعاية القواعد الأساسية التي شرعها الرسول وما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
وانطلاقا من هاتين القاعدتين يرى الكواكبي أنه ليس لزاما على المسلم أن يقلد أحد المذاهب الفقهية، وحجته أن أئمة المذاهب قد اختلفوا في كل الأحكام تقريبا، إلا فيما ندر؛ فلم يمكنهم الاتفاق على أيسر الأمور، وأنهم ترددوا في الجزم بالأحكام حتى عدل بعضهم عن رأي أفتى به إلى غيره، وأن تلامذتهم  اختلفوا في الرواية عنهم؛ كأتباع أبي حنيفة الذين قلما اتفقوا على رواية عنه؛ لتعدد مذاهبه في المسألة الواحدة.
وينتقل الكواكبي بعد ذلك إلى تفنيد أدلة القائلين بوجوب التقليد، وهي الأدلة التي دحضها من سبقوه وكتبوا في الاجتهاد، ولاشك أنه اطلع على مؤلفاتهم، واستفاد منها. وإذا كان الكواكبي لا يعزو آراءه إلى مصدر بعينه، إلا أننا نستطيع أن نلمس اقتباسه آراء القنوجي في كتابه "الإقليد" فيما يتعلق بمسألة الأدلة، والتي أجملها الكواكبي في ثلاثة أدلة رئيسة؛ هي: الادعاء بأن اختلاف الأئمة يعد رحمة بالعباد، وإجماع الأمة منذ قرون على وجوب تقليد أحد المذاهب، وأن الأئمة الأعلام كانوا أكثر منا فهما وعلما، فينبغي أن نقلدهم لأننا لا نستطيع أن نهتدي بأنفسنا.
 وفيما يتعلق بالدليل الأول يرى الكواكبي أن الاختلاف يكون رحمة إن أُحسن استخدامه، أما إن أسيء استخدامه -كما هو الواقع- بأن يدعي أهل كل مذهب من المذاهب أنهم وحدهم أهل السنة والجماعة وأن ما سواهم مبتدعون فلا يتوهم عاقل أن هذا التفرق رحمة قط.
أما الدليل الثاني المستند إلى إجماع الأمة على وجوب التقليد فيذهب فيه إلى أنه لو كان الصواب قائما بالكثرة والقدم وإن خالف المعقول، لاقتضى ذلك صوابية الوثنية ورجحان النصرانية، بل إنه يجد هذا الدليل يخالف قول الرسول عن تفرق الأمة إلى بضع وسبعين شعبة كلها في النار إلا واحدة، فأين حكم الأكثرية في هذه الحال.
أما الدليل الثالث القائل بأن الأئمة الأعلام كانوا أكثر منا فهما وعلما، فهو لا ينكره، لكنه يعلق عليه متسائلا: متى كلف الله تعالى عباده بدين لا يفقهه إلا أمثال هؤلاء النوابغ العظام؟ أليس أساس ديننا القرآن؟ أما السنة أفلم تصل إلينا مجموعة مدونة؟ أي أن معرفتنا بالأصلين القرآن والسنة كافيةٌ عنده لأن نصبح مؤهلين للقيام بالاجتهاد دون الركون إلى تقليد أحد من الأئمة.
تفكيك القداسة
ويمضي الكواكبي لتفكيك هالة القداسة التي نسجت حول الأئمة؛ فيذهب إلى أن علمهم ليس علما كسبيا خارقا للعادة؛ فالإمام الشافعي لم يؤسس قواعد مذهبه إلا على اللغة، أما أبو حنيفة فقد اعتمد على بعض القواعد المنطقية الأساسية، ولم يكلفنا أيٌ منهما باتباع ما ذهب إليه، بل إن الله تعالى لم يرضَ لنا أن نتبع الأعلم، بل كلفنا بأن نستهدي من كتابه وسنة رسوله على حسب إمكاننا وطاقتنا؛ حيث قال تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
إن دعوة الكواكبي المؤيدة لفتح باب الاجتهاد لاشك تستبطن تساؤلات عمن يحق له ممارسة الاجتهاد، ومن الواضح أن الكواكبي كان أميل إلى تأييد التقسيم المعمول به في اليمن، والذي يضع المسلمين على مراتب ثلاث، حسب درجة العلم وإمكانية الاجتهاد، وهي:
- رتبة العلماء: وهم العارفون بالعلم الشرعي وبالأحكام الشرعية وباللغة العربية معرفة وافية، وهؤلاء يحق لهم أن يستهدوا بأنفسهم في الأصول والفروع، ولهم أن ينهضوا بواجب الاجتهاد.
- رتبة القراء: وهم الذين يفهمون القرآن والسنة فهما إجماليا، ويهتدون بأنفسهم في أصول الدين، أما في الفروع فيقلدون أحد الموثوق بهم، دون ارتباط بمجتهد مخصوص، مع معرفتهم للدليل.
- العامة: وهؤلاء يهديهم العلماء مع بيان الدليل؛ فلا يصح تقليد بدون معرفة الدليل.
وينتقل الكواكبي من الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد إلى ممارسة الاجتهاد فعليا حين يقترح أن يضع فقهاء كل مذهب كتبا في العبادات على مراتب؛ فيخصصون كتبا للفرائض، وكتبا أخرى في المندوبات والسنن، وكتبا ثالثة في الزوائد، ويتم تعميم مثل هذه الطريقة في كتب المعاملات التي يمكن تقسيمها إلى أحكام إجماعية وأخرى اجتهادية وثالثة تحسينية. ومثل هذا التقسيم بنظره يمنع التشويش في الفهم لدى العامة، فيقف كل إنسان على ما تؤهله درجته العلمية من الوقوف عليه.
ويخلص الكواكبي إلى أنه إذا كان على العلماء القيام بواجب الاجتهاد، فإن عملية الاجتهاد نفسها ينبغي  أن تتم تحت رعاية الإمام أو ولاة الأمور، فعليهم أن يلزموا الأمة باتباع الأحكام الاجتهادية، التي هي أحكام زمانية، وليست شرعا في حد ذاتها، فإذا تبدل الزمان عدل عنها بغيرها، وهو رأي مستغرب من مفكر مثله لطالما ذم الاستبداد وانتقد تدخل الحكام في السياسات الدينية.

معالم المشروع الإصلاحي لدى الشيخ مصطفى المراغي



الشيخ محمد مصطفى المراغي هو أحد شيوخ الجامع الأزهر وأكثرهم ذيوعا واستنارة في القرن العشرين، اقترن اسمه بعدد من المشروعات الإصلاحية المهمة من قبيل مشروع إصلاح الأزهر ومشروع قانون الأحوال الشخصية.
والمكون الفكري للشيخ هو مكون ديني تقليدي فقد التحق بالمؤسسة الأزهرية ولم يزل طفلا في خواتيم القرن التاسع عشر، إلا أننا نلمس وجود مؤثرين أسهما إلى حد بعيد في تشكيله على نحو مغاير لما سار عليه معاصروه، الأول: تمتعه بحس نقدي فطري أهله لأن يضع موضع الاختبار بعض التقاليد الأزهرية الراسخة  كقراءة الكتب المطولة على يد المشايخ، والاكتفاء بتلقي العلم عن طريق السماع دون التحصيل الذاتي. والثاني: إجادته اللغة الإنجليزية في شبابه وقد كان تعلم اللغات الأجنبية أمرًا نادرا بل ومستهجنا بين الأزهريين في مطلع القرن العشرين، وقد فتحت اللغة الإنجليزية أمامه أبوابا من المعارف الحديثة ومكنته من التعرف على الجوانب الإنسانية في الحضارة الغربية فتجاوز بهذا موقف من لم يروا في الغرب إلا وجهه الاستعماري البغيض.   
وبصورة إجمالية يتسم مشروع المراغي الإصلاحي بعدد من السمات المميزة، وفي مقدمتها اعتبار القرآن الكريم ركيزة للنهضة ومنطلقا للنهوض، ومنها الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية لجعلها ملائمة للمستجدات التي طرأت على المجتمعات، ومنها الانتقال بالشريعة من الصيغ الفقهية إلى الصيغ القانونية حين شارك في صياغة مشروع قانون الأحوال الشخصية، ومنها عدم الاستغراق في الأطر النظرية والإكثار من التآليف والتوجه مباشرة صوب الإصلاح المؤسسي متمثلا في مشروعه لتطوير الأزهر.
ولسنا بحاجة إلى القول أن هذه السمات تجد صداها لدى استاذه ومعلمه محمد عبده حتى لتعد وكأنها استمدادا ونهلا مباشرا منه، ولذلك يصنف مشروع المراغي الإصلاحي بأنه تجليا متأخرا نسبيا من تجليات الإصلاحية الإسلامية التي تأسست في منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، لكننا نلحظ فارق هام وهو أنه لم يسر على نهج الإصلاحيين المتأخرين بالكلية فلم يقع في فخ التقوقع حول الذات بحجة الحفاظ على الهوية المعرضة للتهديد، وظل مشروعه الإصلاحي قائما على اللامذهبية ونبذ التعصب بين الفرق والمذاهب الإسلامية، ومنفتحا على أهل الأديان جميعا وعلى كافة التوجهات الإنسانية. والراجح لدينا أن المراغي قد ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه الإصلاحيون المتأخرون في هذا المجال ويكفي أن نشير إلى أن الشيخ رشيد رضا قد تحفظ على دعوته لإرسال طلبة الأزهر للدراسة في أوروبا.
وإذا شئنا التحدث عن المشروع الإصلاحي لدى المراعي لقلنا إن أهم حلقاته جسدتها مذكرته الإصلاحية لتطوير الأزهر والتي أعدها ولم تكد تمضي ثلاثة أشهر على توليه المشيخة، والتي استهلها بقوله: أنه صار من المحتم لحماية الدين –لا لحماية الأزهر- أن يغير التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى ذلك جريئة، ويقصد بها وجه الله تعالى فلا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ وقد قرنت كل الإصلاحات في العالم بمثل هذه الضجة.
وقد وصَّفت المذكرة بعبارات لا يعوزها الشجاعة واقع المؤسسة العريقة التي نال منها الجمود والتأخر واستكان القائمون على أمرها إلى الراحة وركنوا إلى التقليد، ولم يكتف بالتوصيف وإنما وضع آليات للإصلاح حددها في: دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية دراسة جيدة وفقا قواعد اللغة العربية وقواعد العلم الصحيح، وفتح الدعوة إلى الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية، وتهذيب العقائد والعبادات الإسلامية ما جد فيها وابتدع، وأن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب بعينه، وأن تدرس الأديان المختلفة بالأزهر، وأن يتم إدخال العلوم الحديثة إليه. وقوبلت المذكرة بالرفض من جانب فريق من الأزهريين عبر عن موقفه من خلال بيان مطبوع وزع مجانا وضعه الشيخ عبد الرحمن عليش عضو هيئة كبار العلماء، ويكشف البيان عن تهافت المنهج النقدي وعن التردي العلمي الذي كان عليه حال هذا الفريق الذي لم يخجل من التصريح بأن الاجتهاد المطلق يعد خطرا إذ لو تمت الدعوة إليه لادعاه كل غبي جهول لا يدري من أمر الدين شيئا وينفتح بذلك باب شر لا يمكن سده.
ومن معالم إصلاحيته اشتراكه في مشروع تقنين الأحوال الشخصية المصرية في عشرينيات القرن الفائت وحاول فيه أن يحد من حرية الرجل المطلقة في الطلاق، واللافت للنظر أنه رغم كونه حنفي المذهب وأن مذهب الدولة الرسمي كان كذلك إلا أنه كان مؤمنا بإمكانية الاقتباس من المذاهب الأخرى ما يناسب العصر والمصلحة، ونقل عنه قوله لأعضاء لجنة الأحوال الشخصية ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمصلحة والمكان ولا يعوزني أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم. ولا غرابة في ذلك فقد كان من دعاة التقريب بين المذاهب، وكان من كتاب مجلة (رسالة الإسلام) لسان حال جماعة التقريب.
على صعيد آخر تجلت إصلاحية المراغي في موقفه الواعي من العلاقة الشائكة بين العلم والدين فهو لم ينكر إمكانية توظيف العلم لخدمة الدين كأن يؤخذ بعلم الفلك لتوحيد بدايات الأهلة القمرية، وهي الفتوى التي جرت عليه انتقادات الفقهاء الحرفيين، لكنه في المقابل كان يعتقد بثبات أنه لا ينبغي أن يقحم العلم في الدين دون مسوغ بحيث كلما جد مخترع أو مكتشف علمي هرول فريق من المسلمين ليبحثوا عما يوافقه من النصوص الإسلامية، واستند في ذلك إلى عدم يقينية نتائج هذه العلوم وأنه ليس من الحكمة أن نربط هذه المعارف غير القارة بكتاب الله الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبالطبع ليس الشيخ ممن ينكر أن بعض آيات الكتاب الكريم لا تفهم حق الفهم إلا بمعارف فلكية وطبيعية، ولكنه ذهب إلى أن تلك لم تسق لتقرر تلك المعارف وإنما نزلت للهداية والعبرة فليس القرآن كتاب حساب أو فلك أو طبيعة، وإنما هو كتاب هداية وتنظيم لعلاقة الإنسان بربه وعلاقة أفراد الناس بعضهم ببعض.
ومن المعالم الإصلاحية الهامة لدى الشيخ المراغي رؤيته بشأن الزمالة الإنسانية بين أهل الأديان، والتي صاغها في بحثه المقدم إلى مؤتمر الأديان العالمي الذي انعقد في لندن عام (1936م)، وقد شدد فيه على أن الخطر الذي يداهم الإنسانية لا يأتي من أديان المخالفين وإنما يجيء من الإلحاد ومن المذاهب الفكرية التي تزدري بالأديان، ووجه دعوته إلى المؤمنين جميعا لأن يعملوا على إزاحة العلل التي حالت دون تأثير الشعور الديني في التقريب بين الناس على اختلاف ديانتهم، ومن أجل تحقيق هذه الغاية اقترح إنشاء هيئة عالمية تعمل على تنقية الشعور الديني من الأحقاد تكون مهمتها الأساسية العمل على توجيه الوعظ الديني في جميع الأديان نحو تنقية الضمائر من الضغائن تجاه معتنقي الديانات الأخرى، والبحث عن المشتركات بين الديانات، وجعل الدعوة أو التبشير إلى الأديان قوامها العقل وأن يعتمد في ذلك على وسائل شريفة بعيدة عن الاحتيال والإغراء وتشكيك الناس في عقائدهم. 
وبالجملة كان الشيخ المراغي إصلاحيا مستنيرا تجاوزت دعوته الإصلاحية الحدود القطرية والأطر المذهبية لتشمل الدعوة للزمالة بين أهل الأديان جميعا.

مشاهدات مواطنية من الثورة المصرية


هذه المشاهدات  سُجلت ونشرت قبيل الحادي عشر من فبراير 2011، وقد طواها الزمان الآن، وأعيد نشرها الآن للتاريخ، لعل من يأتون بعدنا يعيدون قراءة المشهد بشكل أفضل.

هناك كثير من المشاهد التي يمكن أن تروى حول وقائع الثورة المصرية التي اندلعت في الخامس والعشرين من يناير غير أني سأتخير هنا بعضا من مشاهداتي التي تتعلق بمشاركة المرأة والأقباط، ومن ثم أعمد إلى توظيفها في سياق مناقشة أزمة المواطنة التي كثر الحديث عن أنها تعاني مأزقا عبرت عنه التوترات الطائفية، والمطالبات بإدماج المرأة في الحياة العامة. ومن المهم أن نشير ابتداء إلى أننا ننطلق من افتراض أولي ألا وهو أن أزمة المواطنة في مصر تبرز –بل وتشتد- في ظل غيبة القضايا الكلية الجامعة التي يمكن أن ينضوي الجميع تحت لوائها على اختلاف انتماءاتهم، على حين أن التوافق حول هذه القضايا والالتفاف حول أهداف وطنية محددة من شأنه تنحية أو بالأدق تراجع المطالب الفئوية لصالح تقدم المطالب الوطنية، وبعبارة أخرى فإن أزمة المواطنة ليست إلا نتاج اختفاء الهدف القومي الجامع الذي يستطيع أن يوحد بين جميع فئات المجتمع.
المرأة.. من التمثيل الرمزي إلى الحضور الفاعل
ولنبدأ بموقف المرأة التي كان حضورها على درجة من البروز بحيث لا تخطئه عين المراقب فضلا عن المشاهد العادي؛ ففي ميدان التحرير لوحظ أن المشاركة النسائية اتسمت بالديمومة حيث قدرت أعداد المتظاهرات بالألاف وهذا العدد يرتفع ليصل إلى عشرات الألوف في التظاهرات الضخمة، وهو ما يعني بالضرورة تنوعا في الشرائح العمرية – وإن كانت الغلبة للشابات- وفي الانتماءات الفكرية والأصول الاجتماعية، وفي التعبيرات المظهرية حيث يتسع المشهد ليضم غالبية من المحجبات إلى جوار غير المحجبات وانتهاء بنسبة ضئيلة من المنتقبات.
واللافت أن حضور النساء لم يكن حضورا تمثيليا تجميليا كما اعتدنا أن نشاهد لدى بعض أطياف المعارضة وإنما كان حضورا فاعلا اتخذت فيه النساء مواقع متقدمة في صفوف المنتفضين أمام قوات الأمن وفي المظاهرات الحاشدة بعد ذلك، وقد سمح هذا الموقع المتقدم أن تقوم النساء بأدوار غير تقليدية كرشق قوات الأمن بالحجارة والاشتباك معها أو الهتاف الحماسي، أوحفز المتظاهرين أو إمدادهم بالمواد الإسعافية (مناديل ورقية، خل، بيبسي كولا) ومن هنا سقط بعضهن في المواجهات وتعرضن للتنكيل على يد عناصر الأمن، كما وجدت طائفة من الأدوار الأخرى ترتبط بالتخطيط والإعداد للحدث والمشاركة في رفع الصور والمشاهد على شبكة الإنترنت، وكما نلحظ فإن بعض هذه الأدوار تعد غير معهودة وكانت تعد أدوارا رجالية من قبل.
وتقريبا للصورة وانتقالا بها من التعميم إلى التخصيص سأقف أمام مشهدين مختلفين، المشهد الأول: حدث يوم الجمعة الثامن والعشرون من يناير وكان في منطقة المطرية الواقعة في شرق القاهرة حيث تجمع المتظاهرون أمام المسجد الكبير ولوحظ مشاركة نسائية ضعيفة مالبث أن اتسع نطاقها بعد ذلك، ومن بين الجموع برزت امرأة تبدو في العقد الخامس تتحدث بكلمات مختنقة بالبكاء يسمعها من حولها من أنها اغتربت عن وطنها لسنوات طويلة لأجل "لقمة العيش" وحتى تنفق على تعليم أبنائها إلى أن تخرجوا من الجامعة والآن لا يجدون عملا ولا تجد هي ما تنفقه، وبمضي الوقت يزداد توتر الأجواء فيلقي جنود الأمن المركزي على المتظاهرين بأعداد كبيرة من الرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع ولكن هذا لا يفت في عضد السيدة على حين يحاول بعض الرجال النكوص والتراجع فتتصدى لهم السيدة بجسدها صائحة من يتراجع ليس برجل وتدفعهم مرة تلو الأخرى إلى الثبات وتظل على حالها أربع ساعات كاملة ولا تبرح مكانها إلا مع شروع الشباب في الانقضاض على عناصر الشرطة وسحق آلتها العسكرية.
المشهد الثاني تمت وقائعه في ميدان التحرير أثناء التظاهرة المليونية حيث برزت من بين التجمعات امرأة في منتصف العمر تقريبا وبصوت عال استطاعت هذه المرأة أن تختطف الهتاف من الشباب وما كان ذلك ليتم لولا أنها تمتعت بمهارات ارتجالية وقدرة على الأداء الحركي التمثيلي، وظلت السيدة تصوغ شعارات زجلية حماسية وتؤديها لفترة طويلة وقد اتسعت دائرة الشباب حولها وما إن أصابها التعب حتى خرجت إحدى الفتيات الشابات واحتلت مكانها في وسط الدائرة.
وحول هذين المشهدين هناك مشاهد متناثرة حول النساء البسيطات اللواتي دعمن المتظاهرين بالمواد الأولية وهتفن ضد النظام، بل وبعضهن شارك في رشق الجند بالحجارة وكل ذلك من شرفات المنازل.
استخلاصا مما سبق يمكن أن نجمل عددا من السمات ميزت المشاركة النسائية في الانتفاضة المصرية وهي كالتالي:
أولا: اتساع قاعدة المشاركة النسائية لتشمل فئات عريضة تتباين في السن والتعليم والطبقة والانتماء العقدي والفكري.
ثانيا: انتقال المشاركة من مستوى التمثيل الرمزي إلى مستوى الحضور الفاعل وهذا ما يبدو في عدد من الأدوار الجديدة والتي كان أهمها الدخول في اشتباك مباشر مع قوات الأمن.
ثالثا: يرتبط بهذا تحطم عدد من الصور الذهنية الشائعة عن المرأة والمتعلقة بعزوفها عن الانخراط في الشأن العام وصورية مشاركتها السياسية وأنها بحاجة إلى تمكين من قبل الدولة حتى تستطيع ممارسة دورها المجتمعي، كما لوحظ تحطم تابو عدم المساس بالمرأة من جانب قوات الأمن أو الميلشيا التابعة لها.
الأقباط.. من المطالبات الفئوية إلى المطالب الوطنية
هذا فيما يخص موقف المرأة أما ما يتعلق بموقف الأقباط فهو على درجة أكبر من التعقيد لاعتبارات صعوبة تحديد أعداد المشاركين منهم لكون الجميع انضوى تحت مظلة جامعة لا تسمح بالتعرف على هوية الفئات التي تظلها، يضاف لذلك أن موقف الكنيسة الرسمي قد حرم عددا من رجال الدين المسيحي الراغبين في التظاهر من المشاركة، وهو ما كان يمكن أن يعبر عن الحضور المسيحي بشكل علني واضح. ورغم هذا فإننا يمكن أن نقدر أن هناك حضورا مسيحيا معقولا يمكننا رصده مستندين إلى أنه من المنطقي أن تكون هناك نسبة من الفتيات غير المحجبات مسيحيات، بالإضافة إلى أن الحضور المسيحي أعلن عن نفسه حين قام بعض المسيحيين بتأدية الصلاة في ساحة ميدان التحرير بالتساوق مع قيام المسلمين بتأدية فريضة الجمعة في ذات الميدان.
وبعيدا عن مسألة تعداد المسيحيين شهدت ساحة ميدان التحرير مواقف عبرت عن حالة من التوحد والاندماج بين المصريين على اختلافهم وقد بدا ذلك في الشعارات والهتافات التي تشير إلى وقوفهم جميعا يدا واحدة كما بدا في الكثير من اللافتات التي تجمع بين الهلال والصليب. وقد تجاوزت حالة التوحد جموع المتظاهرين إلى أفرادهم وفي هذا السياق يمكن انتخاب مشهدين، الأول يتركز حول تلك اللافتة التي رفعها شاب مسلم في أحد التظاهرات ونصها كالتالي: أنا إسلام وأخي صامويل نعيش معا ونموت معا. والثاني ما رواه إمام مسجد بمنطقة المطرية من أن بعض المسيحيين قد دخل المسجد ليتبرع بدمه للمصابين في المواجهات مع الشرطة يوم جمعة الغضب.
هذان المشهدان يكشفان مدى الالتحام الحاصل بين المسلمين والمسيحيين في هذه الثورة التي يصعب أن نميز فيها بين من هو مسلم ومن هو مسيحي وهو مشهد يعيد إلى الأذهان حوادث ثورة 1919 حين دخل القمص سرجيوس الجامع الأزهر ليعبر عن تضامن المسيحيين والمسيحيين في مواجهة الاحتلال البريطاني.
المحصلة النهائية التي نخلص إليها هي أن أزمة المواطنة قد توارت إلى حد بعيد في الأيام القليلة الماضية حيث نحجت هذه الثورة في أن توحد صفوف المصريين جميعا على نحو استطاع معه كل من النساء والأقباط أن ينحيا جانبا المطالب الفئوية الخاصة ويقدما المطالب الوطنية وهذه احدى أهم المكتسبات التي تحققت في هذه الثورة والتي يتوجب أن نتخذها قاعدة للانطلاق في المرحلة المقبلة وهو ما يجب أن نفكر فيه مليا لئلا نضيع أهم مكتسباتنا. 

 

السبت، 8 فبراير 2014

مائة عام ونيف .. لم نبرح المكان

لا يحتاج الإنسان إلى اطلاع واسع أو بحث معمق حتى يدرك أن مشكلاتنا كعرب منذ قرنين من الزمان على الأقل لا تزال كما هي وكأنها وجدت لتبقى لا لكي تحل، نعم قد تستجد مشكلات وقد تطرأ عوارض محدثة تغييرات على هذه المشكلات لكن التغير يظل شكلانيا ويبقى جوهر المشكلة قائما كما هو وكأن السنوات لا تنقضي والعقود لا تنطوي والأجيال لا تتبدل.

منذ أكثر من قرن من الزمان كتب ابن حلب الشهباء عبد الرحمن الكواكبي عن الحرية العزيزة المنال، ووصفها بعبارة لا أنساها قائلا: الحرية هي ما حرمنا معناه حتى نسيناه وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه.

منذ أيام كنت أتحدث عبر الشات إلى أحد الحلبيين من أحفاد الكواكبي والذي يعمل للمفارقة أستاذا جامعيا، فإذا
به يقطع الحديث ليسألني باعتباري مصرية: هي الحرية طعمها إيه؟؟

لحظات قصيرة ورحت في البكاء لقد صدمت من عفوية السؤال وقوته ومما انطوى عليه من أننا جميعا لم نحيا الحرية قط بل تشوقنا إليها وحسب ، وشعرت بغصة شديدة لن أنساها، وأخذت اتساءل أي أوطان نحيا فيها، أبعد كل هذه السنوات لازلنا نصرخ في تونس ومصر وسورية وبقية الدول العربية ونهتف حرية حرية ، ألم يكن أجدر بعد هذه السنوات الطوال أن نصرخ بهتافات أخرى عن دورنا في العالم، ومصائر النهضة وغيرها.

أسفى على عقود طوال وعلى أجيال مضت وتساءلت عن الحرية ولا إجابة  حتى اللحظة.  

الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

المسيري وفقه الأستاذية.. عامان على الرحيل


تتحدى شخصية عبد الوهاب المسيري ما هو سائد ومستقر في الأذهان من صورة نمطية ومألوفة للمفكر من عدة نواحي: فهو ليس مفكرا رسميا يتولى قائمة من المناصب الحكومية قد تطول أو تقصر والذي يصارع على احتكار الحضور التمثيلي في أي محفل علمي في الخارج والداخل بمناسبة وبدون مناسبة، وهو ثانيا ليس من أولئك الذين يعيشون العلم انفصالا واستعلاء عن الواقع وثقافاته الشعبية وإنما هو ممن يؤمن بأن العالم الحقيقي لابد أن يتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية ويعالج ظواهر يحجم البعض عن معالجتها كالفيديو كليب، ولعل هذا ما جعل فكره حيا كما الواقع الذي استقى منه. أما آية تفرده وتميزه فهو نجاحه في تحطيم هالة المفكر الزائفة بلغته المفارقة للواقع وعبوسه الدائم التي تخلق ما لا يحصى من الحواجز بينه وبين تلاميذه وبينه وبين عموم الناس، أما المسيري فلم يكن يرى إلا وسط جمع من الناس بينهم طلاب ومريدين ومثقفين وباحثين بل أن المشهد لم يكن ليخلو من البسطاء أحيانا إذ ليس عسيرا أن يقترب منه أي إنسان ليحادثه ويجلس إليه، وتقفز إلى ذاكرتي الآن صورة عامل النظافة البسيط في معرض الكتاب الذي ما إن رأى المسيري جالسا إلى طاولته في المقهى حتى اقترب منه وأخبره أنه دمنهوري مثله فما كان من المسيري إلا أن دعاه للجلوس إلى جواره بين طلابه ومريديه، وبرهن عندئذ أنه مفكر البسطاء كما كان حسن فتحي مهندسهم.
كانت المرة الأولى التي تعرفت فيها إلى المسيري عام 2002 حين كان لازال يعقد صالونه الثقافي في منزله والذي انتقل فيما بعد إلى جمعية مصر للثقافة والحوار ومنذ اللحظة الأولى أدركت أني أمام مفكر متفرد فطبيعته الإنسانية من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى بذل الجهد في التنقيب عنها، أذكر أنه بعد مرات من مشاركتي الصامتة في الصالون استجمعت شجاعتي للمرة الأولى وكان الحديث حول الشعر وأخبرته أنني أعشق أشعار ناظم حكمت الشاعر التركي الشهير فتبسم وأجابني بأنه يشاركني عشقه وبادر بإهدائي كتابا من مكتبته يحوي مختارات من شعره؛ فأوجد بذلك مشتركا ما بيننا ألا وهو حب ناظم حكمت.
وعلاقة المسيري بأجيال شباب الباحثين تستحق التأمل والنظر فقد كان المسيري محطة هامة وعلامة في حياة الكثير منهم حتى ليخيل إلىّ إنها محطة لا غنى عنها سواء أكان التتلمذ على يديه بشكل مباشر أو عبر مؤلفاته وكتاباته التي هي حوار مفتوح بينه وبين قرائه فلم يكن يتصنع الكتابة ويأتي بما غمض من التعبيرات والمصطلحات وإنما كان يكتب مثلما يتحدث؛ فتأتي كتابته سلسة عذبة إلى درجة أني كثيرا ما شعرت أثناء قراءتي كتبه أنه يتوجه إلىّ بحديثه شارحا ومفسرا، وهو الإحساس الذي طغى عليّ حين قرأت سيرته الذاتية المعنونة "رحلتي الفكرية في الجذور والبذور والثمر" ولابد أن كل من قرأها قد خرج بشيء قريب مما خرجت به.
أما من تتلمذ على يديه فلابد أنه قد لمس جانبا من فقه الأستاذية أو قل عبقرية الأستاذية المسيرية والتي تتجلى في قدرته على اكتشاف الباحثين المتميزين ولفت أنظارهم إلى بعض جوانب تميزهم التي كثيرا ما تكون غير مكتشفة ويجهل أصحابها وجودها، ولا يتوقف دور المسيري عند حدود لفت الباحث إلى قدراته وإنما يظل يشجعه على إطلاقها وتوجيهها في مسارها فكثيرا ما سمعته يحدث هذا أو ذاك مادحاً فكرة كتبها أو مقترح تقدم به وهنا نصل إلى ملمح هام من ملامح أستاذيته ألا وهي قدرته على تقدير أفكار الآخرين وتثمينها مهما كانت بسيطة ومتواضعة مقارنة بأفكاره هو المفكر الموسوعي وفيلسوف رفض الحداثة. أما جوهر أستاذيته فهي الثقة التي يوليها لتلامذته ولقدراتهم البحثية حين يدعوهم إلى تحدي ما هو سائد ومستقر من أفكار وأطروحات ومحاولة تفسير الظواهر بصورة جديدة فإذا ما أمكن للباحث تحقيق ذلك بصورة جزئية فإن المسيري يدفعه لمزيد من الكشف ويحثه عليه. ولعل تلك الثقة التي تبلغ أحيانا درجة الإيمان هي ما تدفع الباحث أن يثبت للمسيري أنه جدير بثقته ومن ثم لا يألو جهدا ليقدم أفضل ما لديه ليضعه بين يدي أستاذه.
لقد صاغ المسيري إطارا جديدا للعلاقة بين المفكر وتلاميذه في عالمنا العربي وأحسب أن من سيأتون بعده من أساتذة ومفكرين سوف يتأثرون بها.
نشرت بموقع رسالة أون لاين