هذه المشاهدات سُجلت ونشرت قبيل الحادي عشر من فبراير 2011، وقد طواها الزمان الآن، وأعيد نشرها الآن للتاريخ، لعل من يأتون بعدنا يعيدون قراءة المشهد بشكل أفضل.
هناك كثير من المشاهد التي يمكن أن تروى حول وقائع الثورة المصرية التي اندلعت
في الخامس والعشرين من يناير غير أني سأتخير هنا بعضا من مشاهداتي التي تتعلق بمشاركة
المرأة والأقباط، ومن ثم أعمد إلى توظيفها في سياق مناقشة أزمة المواطنة التي كثر
الحديث عن أنها تعاني مأزقا عبرت عنه التوترات الطائفية، والمطالبات بإدماج المرأة
في الحياة العامة. ومن المهم أن نشير ابتداء إلى أننا ننطلق من افتراض أولي ألا
وهو أن أزمة المواطنة في مصر تبرز –بل وتشتد- في ظل غيبة القضايا الكلية الجامعة
التي يمكن أن ينضوي الجميع تحت لوائها على اختلاف انتماءاتهم، على حين أن التوافق
حول هذه القضايا والالتفاف حول أهداف وطنية محددة من شأنه تنحية أو بالأدق تراجع
المطالب الفئوية لصالح تقدم المطالب الوطنية، وبعبارة أخرى فإن أزمة المواطنة ليست
إلا نتاج اختفاء الهدف القومي الجامع الذي يستطيع أن يوحد بين جميع فئات المجتمع.
المرأة.. من التمثيل الرمزي إلى الحضور الفاعل
ولنبدأ بموقف المرأة التي كان حضورها على درجة من البروز بحيث لا تخطئه عين
المراقب فضلا عن المشاهد العادي؛ ففي ميدان التحرير لوحظ أن المشاركة النسائية اتسمت
بالديمومة حيث قدرت أعداد المتظاهرات بالألاف وهذا العدد يرتفع ليصل إلى عشرات
الألوف في التظاهرات الضخمة، وهو ما يعني بالضرورة تنوعا في الشرائح العمرية – وإن
كانت الغلبة للشابات- وفي الانتماءات الفكرية والأصول الاجتماعية، وفي التعبيرات
المظهرية حيث يتسع المشهد ليضم غالبية من المحجبات إلى جوار غير المحجبات وانتهاء
بنسبة ضئيلة من المنتقبات.
واللافت أن حضور النساء لم يكن حضورا تمثيليا تجميليا كما اعتدنا أن نشاهد
لدى بعض أطياف المعارضة وإنما كان حضورا فاعلا اتخذت فيه النساء مواقع متقدمة في
صفوف المنتفضين أمام قوات الأمن وفي المظاهرات الحاشدة بعد ذلك، وقد سمح هذا
الموقع المتقدم أن تقوم النساء بأدوار غير تقليدية كرشق قوات الأمن بالحجارة والاشتباك
معها أو الهتاف الحماسي، أوحفز المتظاهرين أو إمدادهم بالمواد الإسعافية (مناديل
ورقية، خل، بيبسي كولا) ومن هنا سقط بعضهن في المواجهات وتعرضن للتنكيل على يد
عناصر الأمن، كما وجدت طائفة من الأدوار الأخرى ترتبط بالتخطيط والإعداد للحدث والمشاركة
في رفع الصور والمشاهد على شبكة الإنترنت، وكما نلحظ فإن بعض هذه الأدوار تعد غير
معهودة وكانت تعد أدوارا رجالية من قبل.
وتقريبا للصورة وانتقالا بها من التعميم إلى التخصيص سأقف أمام مشهدين
مختلفين، المشهد الأول: حدث يوم الجمعة الثامن والعشرون من يناير وكان في منطقة
المطرية الواقعة في شرق القاهرة حيث تجمع المتظاهرون أمام المسجد الكبير ولوحظ
مشاركة نسائية ضعيفة مالبث أن اتسع نطاقها بعد ذلك، ومن بين الجموع برزت امرأة تبدو
في العقد الخامس تتحدث بكلمات مختنقة بالبكاء يسمعها من حولها من أنها اغتربت عن
وطنها لسنوات طويلة لأجل "لقمة العيش" وحتى تنفق على تعليم أبنائها إلى
أن تخرجوا من الجامعة والآن لا يجدون عملا ولا تجد هي ما تنفقه، وبمضي الوقت يزداد
توتر الأجواء فيلقي جنود الأمن المركزي على المتظاهرين بأعداد كبيرة من الرصاص
المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع ولكن هذا لا يفت في عضد السيدة على حين يحاول
بعض الرجال النكوص والتراجع فتتصدى لهم السيدة بجسدها صائحة من يتراجع ليس برجل
وتدفعهم مرة تلو الأخرى إلى الثبات وتظل على حالها أربع ساعات كاملة ولا تبرح
مكانها إلا مع شروع الشباب في الانقضاض على عناصر الشرطة وسحق آلتها العسكرية.
المشهد الثاني تمت وقائعه في
ميدان التحرير أثناء التظاهرة المليونية حيث برزت من بين التجمعات امرأة في منتصف
العمر تقريبا وبصوت عال استطاعت هذه المرأة أن تختطف الهتاف من الشباب وما كان ذلك
ليتم لولا أنها تمتعت بمهارات ارتجالية وقدرة على الأداء الحركي التمثيلي، وظلت
السيدة تصوغ شعارات زجلية حماسية وتؤديها لفترة طويلة وقد اتسعت دائرة الشباب
حولها وما إن أصابها التعب حتى خرجت إحدى الفتيات الشابات واحتلت مكانها في وسط
الدائرة.
وحول هذين المشهدين هناك مشاهد متناثرة حول النساء البسيطات اللواتي دعمن
المتظاهرين بالمواد الأولية وهتفن ضد النظام، بل وبعضهن شارك في رشق الجند
بالحجارة وكل ذلك من شرفات المنازل.
استخلاصا مما سبق يمكن أن نجمل عددا من السمات ميزت المشاركة النسائية في
الانتفاضة المصرية وهي كالتالي:
أولا: اتساع قاعدة المشاركة
النسائية لتشمل فئات عريضة تتباين في السن والتعليم والطبقة والانتماء العقدي
والفكري.
ثانيا: انتقال المشاركة من
مستوى التمثيل الرمزي إلى مستوى الحضور الفاعل وهذا ما يبدو في عدد من الأدوار
الجديدة والتي كان أهمها الدخول في اشتباك مباشر مع قوات الأمن.
ثالثا: يرتبط بهذا تحطم عدد من
الصور الذهنية الشائعة عن المرأة والمتعلقة بعزوفها عن الانخراط في الشأن العام
وصورية مشاركتها السياسية وأنها بحاجة إلى تمكين من قبل الدولة حتى تستطيع ممارسة
دورها المجتمعي، كما لوحظ تحطم تابو عدم المساس بالمرأة من جانب قوات الأمن أو
الميلشيا التابعة لها.
الأقباط.. من المطالبات الفئوية إلى المطالب الوطنية
هذا فيما يخص موقف المرأة أما ما يتعلق بموقف الأقباط فهو على درجة أكبر من
التعقيد لاعتبارات صعوبة تحديد أعداد المشاركين منهم لكون الجميع انضوى تحت مظلة
جامعة لا تسمح بالتعرف على هوية الفئات التي تظلها، يضاف لذلك أن موقف الكنيسة
الرسمي قد حرم عددا من رجال الدين المسيحي الراغبين في التظاهر من المشاركة، وهو
ما كان يمكن أن يعبر عن الحضور المسيحي بشكل علني واضح. ورغم هذا فإننا يمكن أن
نقدر أن هناك حضورا مسيحيا معقولا يمكننا رصده مستندين إلى أنه من المنطقي أن تكون
هناك نسبة من الفتيات غير المحجبات مسيحيات، بالإضافة إلى أن الحضور المسيحي أعلن
عن نفسه حين قام بعض المسيحيين بتأدية الصلاة في ساحة ميدان التحرير بالتساوق مع
قيام المسلمين بتأدية فريضة الجمعة في ذات الميدان.
وبعيدا عن مسألة تعداد المسيحيين شهدت ساحة ميدان التحرير مواقف عبرت عن
حالة من التوحد والاندماج بين المصريين على اختلافهم وقد بدا ذلك في الشعارات
والهتافات التي تشير إلى وقوفهم جميعا يدا واحدة كما بدا في الكثير من اللافتات
التي تجمع بين الهلال والصليب. وقد تجاوزت حالة التوحد جموع المتظاهرين إلى
أفرادهم وفي هذا السياق يمكن انتخاب مشهدين، الأول يتركز حول تلك اللافتة التي
رفعها شاب مسلم في أحد التظاهرات ونصها كالتالي: أنا إسلام وأخي صامويل نعيش معا ونموت
معا. والثاني ما رواه إمام مسجد بمنطقة المطرية من أن بعض المسيحيين قد دخل المسجد
ليتبرع بدمه للمصابين في المواجهات مع الشرطة يوم جمعة الغضب.
هذان المشهدان يكشفان مدى الالتحام الحاصل بين المسلمين والمسيحيين في هذه
الثورة التي يصعب أن نميز فيها بين من هو مسلم ومن هو مسيحي وهو مشهد يعيد إلى
الأذهان حوادث ثورة 1919 حين دخل القمص سرجيوس الجامع الأزهر ليعبر عن تضامن
المسيحيين والمسيحيين في مواجهة الاحتلال البريطاني.
المحصلة النهائية التي نخلص
إليها هي أن أزمة المواطنة قد توارت إلى حد بعيد في الأيام القليلة الماضية حيث نحجت
هذه الثورة في أن توحد صفوف المصريين جميعا على نحو استطاع معه كل من النساء
والأقباط أن ينحيا جانبا المطالب الفئوية الخاصة ويقدما المطالب الوطنية وهذه احدى
أهم المكتسبات التي تحققت في هذه الثورة والتي يتوجب أن نتخذها قاعدة للانطلاق في المرحلة
المقبلة وهو ما يجب أن نفكر فيه مليا لئلا نضيع أهم مكتسباتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق