الأربعاء، 20 أغسطس 2014

معالم المشروع الإصلاحي لدى الشيخ مصطفى المراغي



الشيخ محمد مصطفى المراغي هو أحد شيوخ الجامع الأزهر وأكثرهم ذيوعا واستنارة في القرن العشرين، اقترن اسمه بعدد من المشروعات الإصلاحية المهمة من قبيل مشروع إصلاح الأزهر ومشروع قانون الأحوال الشخصية.
والمكون الفكري للشيخ هو مكون ديني تقليدي فقد التحق بالمؤسسة الأزهرية ولم يزل طفلا في خواتيم القرن التاسع عشر، إلا أننا نلمس وجود مؤثرين أسهما إلى حد بعيد في تشكيله على نحو مغاير لما سار عليه معاصروه، الأول: تمتعه بحس نقدي فطري أهله لأن يضع موضع الاختبار بعض التقاليد الأزهرية الراسخة  كقراءة الكتب المطولة على يد المشايخ، والاكتفاء بتلقي العلم عن طريق السماع دون التحصيل الذاتي. والثاني: إجادته اللغة الإنجليزية في شبابه وقد كان تعلم اللغات الأجنبية أمرًا نادرا بل ومستهجنا بين الأزهريين في مطلع القرن العشرين، وقد فتحت اللغة الإنجليزية أمامه أبوابا من المعارف الحديثة ومكنته من التعرف على الجوانب الإنسانية في الحضارة الغربية فتجاوز بهذا موقف من لم يروا في الغرب إلا وجهه الاستعماري البغيض.   
وبصورة إجمالية يتسم مشروع المراغي الإصلاحي بعدد من السمات المميزة، وفي مقدمتها اعتبار القرآن الكريم ركيزة للنهضة ومنطلقا للنهوض، ومنها الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية لجعلها ملائمة للمستجدات التي طرأت على المجتمعات، ومنها الانتقال بالشريعة من الصيغ الفقهية إلى الصيغ القانونية حين شارك في صياغة مشروع قانون الأحوال الشخصية، ومنها عدم الاستغراق في الأطر النظرية والإكثار من التآليف والتوجه مباشرة صوب الإصلاح المؤسسي متمثلا في مشروعه لتطوير الأزهر.
ولسنا بحاجة إلى القول أن هذه السمات تجد صداها لدى استاذه ومعلمه محمد عبده حتى لتعد وكأنها استمدادا ونهلا مباشرا منه، ولذلك يصنف مشروع المراغي الإصلاحي بأنه تجليا متأخرا نسبيا من تجليات الإصلاحية الإسلامية التي تأسست في منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، لكننا نلحظ فارق هام وهو أنه لم يسر على نهج الإصلاحيين المتأخرين بالكلية فلم يقع في فخ التقوقع حول الذات بحجة الحفاظ على الهوية المعرضة للتهديد، وظل مشروعه الإصلاحي قائما على اللامذهبية ونبذ التعصب بين الفرق والمذاهب الإسلامية، ومنفتحا على أهل الأديان جميعا وعلى كافة التوجهات الإنسانية. والراجح لدينا أن المراغي قد ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه الإصلاحيون المتأخرون في هذا المجال ويكفي أن نشير إلى أن الشيخ رشيد رضا قد تحفظ على دعوته لإرسال طلبة الأزهر للدراسة في أوروبا.
وإذا شئنا التحدث عن المشروع الإصلاحي لدى المراعي لقلنا إن أهم حلقاته جسدتها مذكرته الإصلاحية لتطوير الأزهر والتي أعدها ولم تكد تمضي ثلاثة أشهر على توليه المشيخة، والتي استهلها بقوله: أنه صار من المحتم لحماية الدين –لا لحماية الأزهر- أن يغير التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى ذلك جريئة، ويقصد بها وجه الله تعالى فلا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ وقد قرنت كل الإصلاحات في العالم بمثل هذه الضجة.
وقد وصَّفت المذكرة بعبارات لا يعوزها الشجاعة واقع المؤسسة العريقة التي نال منها الجمود والتأخر واستكان القائمون على أمرها إلى الراحة وركنوا إلى التقليد، ولم يكتف بالتوصيف وإنما وضع آليات للإصلاح حددها في: دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية دراسة جيدة وفقا قواعد اللغة العربية وقواعد العلم الصحيح، وفتح الدعوة إلى الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية، وتهذيب العقائد والعبادات الإسلامية ما جد فيها وابتدع، وأن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب بعينه، وأن تدرس الأديان المختلفة بالأزهر، وأن يتم إدخال العلوم الحديثة إليه. وقوبلت المذكرة بالرفض من جانب فريق من الأزهريين عبر عن موقفه من خلال بيان مطبوع وزع مجانا وضعه الشيخ عبد الرحمن عليش عضو هيئة كبار العلماء، ويكشف البيان عن تهافت المنهج النقدي وعن التردي العلمي الذي كان عليه حال هذا الفريق الذي لم يخجل من التصريح بأن الاجتهاد المطلق يعد خطرا إذ لو تمت الدعوة إليه لادعاه كل غبي جهول لا يدري من أمر الدين شيئا وينفتح بذلك باب شر لا يمكن سده.
ومن معالم إصلاحيته اشتراكه في مشروع تقنين الأحوال الشخصية المصرية في عشرينيات القرن الفائت وحاول فيه أن يحد من حرية الرجل المطلقة في الطلاق، واللافت للنظر أنه رغم كونه حنفي المذهب وأن مذهب الدولة الرسمي كان كذلك إلا أنه كان مؤمنا بإمكانية الاقتباس من المذاهب الأخرى ما يناسب العصر والمصلحة، ونقل عنه قوله لأعضاء لجنة الأحوال الشخصية ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمصلحة والمكان ولا يعوزني أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم. ولا غرابة في ذلك فقد كان من دعاة التقريب بين المذاهب، وكان من كتاب مجلة (رسالة الإسلام) لسان حال جماعة التقريب.
على صعيد آخر تجلت إصلاحية المراغي في موقفه الواعي من العلاقة الشائكة بين العلم والدين فهو لم ينكر إمكانية توظيف العلم لخدمة الدين كأن يؤخذ بعلم الفلك لتوحيد بدايات الأهلة القمرية، وهي الفتوى التي جرت عليه انتقادات الفقهاء الحرفيين، لكنه في المقابل كان يعتقد بثبات أنه لا ينبغي أن يقحم العلم في الدين دون مسوغ بحيث كلما جد مخترع أو مكتشف علمي هرول فريق من المسلمين ليبحثوا عما يوافقه من النصوص الإسلامية، واستند في ذلك إلى عدم يقينية نتائج هذه العلوم وأنه ليس من الحكمة أن نربط هذه المعارف غير القارة بكتاب الله الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبالطبع ليس الشيخ ممن ينكر أن بعض آيات الكتاب الكريم لا تفهم حق الفهم إلا بمعارف فلكية وطبيعية، ولكنه ذهب إلى أن تلك لم تسق لتقرر تلك المعارف وإنما نزلت للهداية والعبرة فليس القرآن كتاب حساب أو فلك أو طبيعة، وإنما هو كتاب هداية وتنظيم لعلاقة الإنسان بربه وعلاقة أفراد الناس بعضهم ببعض.
ومن المعالم الإصلاحية الهامة لدى الشيخ المراغي رؤيته بشأن الزمالة الإنسانية بين أهل الأديان، والتي صاغها في بحثه المقدم إلى مؤتمر الأديان العالمي الذي انعقد في لندن عام (1936م)، وقد شدد فيه على أن الخطر الذي يداهم الإنسانية لا يأتي من أديان المخالفين وإنما يجيء من الإلحاد ومن المذاهب الفكرية التي تزدري بالأديان، ووجه دعوته إلى المؤمنين جميعا لأن يعملوا على إزاحة العلل التي حالت دون تأثير الشعور الديني في التقريب بين الناس على اختلاف ديانتهم، ومن أجل تحقيق هذه الغاية اقترح إنشاء هيئة عالمية تعمل على تنقية الشعور الديني من الأحقاد تكون مهمتها الأساسية العمل على توجيه الوعظ الديني في جميع الأديان نحو تنقية الضمائر من الضغائن تجاه معتنقي الديانات الأخرى، والبحث عن المشتركات بين الديانات، وجعل الدعوة أو التبشير إلى الأديان قوامها العقل وأن يعتمد في ذلك على وسائل شريفة بعيدة عن الاحتيال والإغراء وتشكيك الناس في عقائدهم. 
وبالجملة كان الشيخ المراغي إصلاحيا مستنيرا تجاوزت دعوته الإصلاحية الحدود القطرية والأطر المذهبية لتشمل الدعوة للزمالة بين أهل الأديان جميعا.

ليست هناك تعليقات: