الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

المسيري وفقه الأستاذية.. عامان على الرحيل


تتحدى شخصية عبد الوهاب المسيري ما هو سائد ومستقر في الأذهان من صورة نمطية ومألوفة للمفكر من عدة نواحي: فهو ليس مفكرا رسميا يتولى قائمة من المناصب الحكومية قد تطول أو تقصر والذي يصارع على احتكار الحضور التمثيلي في أي محفل علمي في الخارج والداخل بمناسبة وبدون مناسبة، وهو ثانيا ليس من أولئك الذين يعيشون العلم انفصالا واستعلاء عن الواقع وثقافاته الشعبية وإنما هو ممن يؤمن بأن العالم الحقيقي لابد أن يتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية ويعالج ظواهر يحجم البعض عن معالجتها كالفيديو كليب، ولعل هذا ما جعل فكره حيا كما الواقع الذي استقى منه. أما آية تفرده وتميزه فهو نجاحه في تحطيم هالة المفكر الزائفة بلغته المفارقة للواقع وعبوسه الدائم التي تخلق ما لا يحصى من الحواجز بينه وبين تلاميذه وبينه وبين عموم الناس، أما المسيري فلم يكن يرى إلا وسط جمع من الناس بينهم طلاب ومريدين ومثقفين وباحثين بل أن المشهد لم يكن ليخلو من البسطاء أحيانا إذ ليس عسيرا أن يقترب منه أي إنسان ليحادثه ويجلس إليه، وتقفز إلى ذاكرتي الآن صورة عامل النظافة البسيط في معرض الكتاب الذي ما إن رأى المسيري جالسا إلى طاولته في المقهى حتى اقترب منه وأخبره أنه دمنهوري مثله فما كان من المسيري إلا أن دعاه للجلوس إلى جواره بين طلابه ومريديه، وبرهن عندئذ أنه مفكر البسطاء كما كان حسن فتحي مهندسهم.
كانت المرة الأولى التي تعرفت فيها إلى المسيري عام 2002 حين كان لازال يعقد صالونه الثقافي في منزله والذي انتقل فيما بعد إلى جمعية مصر للثقافة والحوار ومنذ اللحظة الأولى أدركت أني أمام مفكر متفرد فطبيعته الإنسانية من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى بذل الجهد في التنقيب عنها، أذكر أنه بعد مرات من مشاركتي الصامتة في الصالون استجمعت شجاعتي للمرة الأولى وكان الحديث حول الشعر وأخبرته أنني أعشق أشعار ناظم حكمت الشاعر التركي الشهير فتبسم وأجابني بأنه يشاركني عشقه وبادر بإهدائي كتابا من مكتبته يحوي مختارات من شعره؛ فأوجد بذلك مشتركا ما بيننا ألا وهو حب ناظم حكمت.
وعلاقة المسيري بأجيال شباب الباحثين تستحق التأمل والنظر فقد كان المسيري محطة هامة وعلامة في حياة الكثير منهم حتى ليخيل إلىّ إنها محطة لا غنى عنها سواء أكان التتلمذ على يديه بشكل مباشر أو عبر مؤلفاته وكتاباته التي هي حوار مفتوح بينه وبين قرائه فلم يكن يتصنع الكتابة ويأتي بما غمض من التعبيرات والمصطلحات وإنما كان يكتب مثلما يتحدث؛ فتأتي كتابته سلسة عذبة إلى درجة أني كثيرا ما شعرت أثناء قراءتي كتبه أنه يتوجه إلىّ بحديثه شارحا ومفسرا، وهو الإحساس الذي طغى عليّ حين قرأت سيرته الذاتية المعنونة "رحلتي الفكرية في الجذور والبذور والثمر" ولابد أن كل من قرأها قد خرج بشيء قريب مما خرجت به.
أما من تتلمذ على يديه فلابد أنه قد لمس جانبا من فقه الأستاذية أو قل عبقرية الأستاذية المسيرية والتي تتجلى في قدرته على اكتشاف الباحثين المتميزين ولفت أنظارهم إلى بعض جوانب تميزهم التي كثيرا ما تكون غير مكتشفة ويجهل أصحابها وجودها، ولا يتوقف دور المسيري عند حدود لفت الباحث إلى قدراته وإنما يظل يشجعه على إطلاقها وتوجيهها في مسارها فكثيرا ما سمعته يحدث هذا أو ذاك مادحاً فكرة كتبها أو مقترح تقدم به وهنا نصل إلى ملمح هام من ملامح أستاذيته ألا وهي قدرته على تقدير أفكار الآخرين وتثمينها مهما كانت بسيطة ومتواضعة مقارنة بأفكاره هو المفكر الموسوعي وفيلسوف رفض الحداثة. أما جوهر أستاذيته فهي الثقة التي يوليها لتلامذته ولقدراتهم البحثية حين يدعوهم إلى تحدي ما هو سائد ومستقر من أفكار وأطروحات ومحاولة تفسير الظواهر بصورة جديدة فإذا ما أمكن للباحث تحقيق ذلك بصورة جزئية فإن المسيري يدفعه لمزيد من الكشف ويحثه عليه. ولعل تلك الثقة التي تبلغ أحيانا درجة الإيمان هي ما تدفع الباحث أن يثبت للمسيري أنه جدير بثقته ومن ثم لا يألو جهدا ليقدم أفضل ما لديه ليضعه بين يدي أستاذه.
لقد صاغ المسيري إطارا جديدا للعلاقة بين المفكر وتلاميذه في عالمنا العربي وأحسب أن من سيأتون بعده من أساتذة ومفكرين سوف يتأثرون بها.
نشرت بموقع رسالة أون لاين

ليست هناك تعليقات: