الجمعة، 21 نوفمبر 2008

برنارد لويس .. حين تنحاز المعرفة إلى الكولونيالية


فاطمة حافظ


منذ أصدر إدوارد سعيد كتابه (الاستشراق) الذي درس من خلاله جدل الابستمولوجيا والسلطة في الغرب والأصداء لا تزال تتردد حوله، وقد أسس (الاستشراق) لمجموعتين من الأسئلة بعضها يثار حول من يكتب ويدرس الاستشراق وبأية أغراض، وبعضها الآخر يتعلق بالمنهج ويتركز حول التأثيرات التي تمارسها أجواء السياسة على المنتج المعرفي الاستشراقي، وما إمكانية إنتاج معرفة غير متحيزة في ظل الانغماس في السياسة ؟ وهي أسئلة نجد أن التوقف أمام برنارد لويس أحد رموز الحركة الاستشراقية المعاصرة ربما يسهم في إجلاء الصورة حولها حيث نعرض لكتابه أزمة الإسلام الصادر عام 2004.


ملاحظات أولية حول السيرة والمنهج


ينتمي المؤرخ الشهير لأسرة بريطانية ذات أصول يهودية، شغف بدراسة التاريخ ونال درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي عام 1939من جامعة لندن التي عين أستاذا بها، وخلال الحرب العالمية الثانية التحق بخدمة المخابرات البريطانية كخبير لدراسات المشرق العربي، وعلى الرغم من عودته للتدريس بالجامعة بعد انتهاء الحرب، إلا أنه صلاته مع المخابرات لم تنقطع. وفي أوائل السبعينات ومع تلاشي الإمبراطورية البريطانية في المنطقة أدرك لويس أن استقراره ببريطانيا لم يعد له ما يبرره فقرر الرحيل إلى الولايات المتحدة- ألا يعيد ذلك إلى الأذهان ذكرى انتقال مركز الحركة الصهيونية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية- وهناك حل في جامعة برينستون ووضع إمكانياته المعرفية في خدمة كل من المشروع الإمبريالي الأمريكي الصاعد، والمشروع الصهيوني. وقد تتلمذ على يديه عدد كبير من العاملين الآن في حقل الدراسات الاستشراقية والذين يعملون كخبراء ومستشارين للمحافظين الجدد من أعضاء مجلس الأمن القومي والعاملين في وزارتي الخارجية والدفاع.
ولويس على صلة وثيقة بدوائر صنع القرار في واشنطن وتل أبيب، حيث عمل مستشاراً لعدد من رؤساء وزراء إسرائيل بينهم ارييل شارون، وتحرص الجامعة العبرية على الاحتفال بعيد ميلاده كل عام ويلبي لويس الدعوة بصحبة زوجته الإسرائيلية وبصحبة عدد من السياسيين الإسرائيليين والأمريكيين، وهو أحد واضعي أسس السياسة الأمريكية في العالم العربي، ويذكر انه التقى الرئيس الأمريكي ووزير دفاعه بعد أسبوع واحد فقط من تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، ويعزى إلى أفكاره تلك النقلة النوعية في السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة فهو من اقترح غزو العراق عسكرياً لغرس بذور الديمقراطية في العالم العربي، وقدم صديقه أحمد الجلبي للإدارة الأمريكية باعتباره عنصرا يمكن الاعتماد عليه في ذلك.
وقد وضع لويس ما يربو عن العشرين مؤلفا حول الإسلام، وإن كنا نلحظ بوجه عام أن كتاباته التاريخية الأولى لا يعوزها الدقة والالتزام المنهجي فقد كتبها باحث كان يبدو آنذاك واعدا أتقن ثماني لغات شرقية مما أتاح له الإطلاع على المنتج المعرفي الشرقي عن كثب، في حين تأتي مؤلفاته الأخيرة أشبه بالمنشورات الدعائية منها للدراسات العلمية، تغلفها غلالة أكاديمية رقيقة لإضفاء بعض المصداقية عليها، ومن أمثلتها كتابه (أين الخطأ) الذي صدر في أعقاب هجوم الحادي من سبتمبر والذي نفد فور صدوره وأعيدت طباعته عدة مرات، وكتابه الذي نعرض له (أزمة الإسلام) والذي قوبل بذات الحفاوة. وقبيل استعراضنا لأبرز ما أورده لويس من ادعاءات نشير إلى بعض سمات وملامح المنهج الذي اختطه لنفسه في هذه الكتاب.
الاجتزاء والتعميم: يعمد لويس في مواضع عديدة إلى التقاط بعض الشواهد الفردية، ويقوم بتعميمها على التاريخ الإسلامي وواقع المسلمين ككل، ومن ذلك زعمه أن اهتمام المسلمين بمدينة القدس اهتمام محدث يعود إلى القرن التاسع عشر فقط، وهو يستند إلى واقعة تنازل أحد الأمراء الأيوبيين عن المدينة المقدسة للملك فريدريك الصليبي ويعممها على التاريخ الإسلامي ككل، وذلك بغض النظر عن ملابسات التسليم، والاستنكار الشعبي الذي قوبل به. ومنها أيضا اقتباسه بيان صحفي نشرته جريدة القدس العربي بتاريخ 23 فبراير 1998 حمل توقيع ابن لادن و زعماء جماعات الجهاد في مصر وباكستان وبنجلاديش، ودعا البيان المسلمين إلى " قتال الأمريكيين الكفرة وحلفاءهم" إلى حين خروج قواتهم مدحورة من جزيرة العرب. وبغض النظر عن الاعتماد على مصدر أوحد للمعلومات دون تعزيزه بمصادر أخرى، وإمكانية تلفيق هذا البيان، يتخذ لويس مما جاء فيه دليلا على عدوانية المسلمين جميعا وتكفيرهم لغيرهم وحرصهم على إبادة أتباع الديانات الأخرى.
المقدمات الصحيحة والنتائج الخاطئة: ينطلق لويس في كثير من الأحيان من مقدمات وفرضيات مبدئية صحيحة وبدلا من أن يقود القارئ بالتبعية إلى نتائج صحيحة فإنه يصل به إلى نتائج مشوهة، وأحد أبرز الأمثلة على ذلك قوله" إن معظم المسلمين ليسوا من الأصوليين، كما أن معظم الأصوليين ليسوا إرهابيين، لكن معظم الإرهابيين في عصرنا مسلمون " (ص151). وحين تناول الادعاء القائل بأن الإسلام يمثل العدو الجديد للغرب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، أقر أن الإسلام في ذاته ليس عدوا، وأن أعداد متزايدة من المسلمين ترغب في إقامة علاقات طيبة مع الغرب، ولكنه يردف بعد ذلك مباشرة قائلا " لكن عدداً كبيراً من المسلمين وبوجه خاص الأصوليون... يعتبرون معادين وخطرين، ليس لأننا بحاجة إلى وجود عدو ولكن لأنهم هم بحاجة إلى ذلك" (ص71)
الثنائيات المتعارضة: ونقصد بهاوضع مصطلح أو مفهوم في مقابل آخر لا يقابله، وهو ما مارسه لويس على نطاق واسع في الكتاب، فحين تعرض لمفهوم الجهاد ذكر أنه " المقابل الإسلامي للحروب الصليبية، وينظر إلى اللفظين على أنهما مترادفين، وذلك صحيح إلى حد ما" (ص78) وحين تناول لقب خليفة عده موازياً للقب ظل الله على الأرض، ويرمي لويس من وراء ذلك إلى تشويه المفاهيم الإسلامية وتفريغها من مضمونها، وتحميلها بمضامين دخيلة.
الغموض: بعض إشارات لويس لا تعد إشارات تفصيلية تامة المعنى، ولكنها أقرب إلى التلميحات القصيرة غير المكتملة، وهو يلجأ إليها إدراكا منه أن بعض المخاطبين بها والذين لا يعرفون سوى القليل عن الإسلام سيتلقونها وستترك أثرها في التشويش على أذهانهم، ومن أمثلة عباراته الغامضة تلك التي تناول فيها طبيعة المسجد في الإسلام "أما في العصور الحديثة فقد وقعت تغييرات كثيرة ترجع أساساً إلى التأثير الغربي، حيث ظهرت مؤسسات ومهن أشبه بالكنائس والرهبان في العالم المسيحي إلى حد يثير الشك" (ص59) فما هي طبيعة تلك المؤسسات والمهن، وأين ومتى ظهرت.


من الجهاد إلى الإرهاب.. الالتباس المتعمد


الغاية الأساسية التي من أجلها وضع لويس مؤلفه هي محاولة افتعال رابط بين مفهوم الجهاد وبين مفهوم الإرهاب، وهو ما يبدو جليا من عنوان الكتاب، ويعتمد لويس تعريفاً للجهاد يسمح بوجود هذا الخلط المفاهيمي- في حين يحجم عن تقديم تعريف مماثل للإرهاب- فيذهب إلى أنه عبر أربعة عشر قرنا انصرف مفهوم الجهاد إلى الكفاح المسلح والحربي دون الجهاد المعنوي، وأن العالم يتشكل وفق رؤية المسلمين إلى دار الإسلام ودار الحرب، والمفترض أن واجب الجهاد سيستمر إلى أن يعتنق العالم بأجمعه الإسلام أو يخضع للحكم الإسلامي، ويطرح لويس الجهاد على أنه المقابل الإسلامي للحروب الصليبية، فكلاهما شن ضد عدو كافر، لكنه ينبري مدافعا عن الحروب الصليبية فيصفها بأنها تمثل تطورا متأخرا للعالم المسيحي وابتعاداً عن جوهر المسيحية، والأهم من ذلك محدوديتها النسبية وأنها ردة فعل على الهجمات الإسلامية، أما الجهاد فهو حاضر منذ بداية التاريخ الإسلامي وتحث عليه النصوص المقدسة. وهنا نلمح أن لويس يعاني من تناقضات المنهج فهو يبيح لنفسه تعميم واقعة التنازل على مدينة القدس على تاريخ الإسلام، في حين ينظر للحروب الصليبية التي استمرت قرابة الثلاثة قرون على أنها محدودة نسبيا ولا تعبر عن التاريخ المسيحي.
وحسبما يرى لويس فقد انطلقت مسيرة "الجهاد العربي" على يد مؤسس الإسلام (النبي/ القيصر) الذي نجح في إقامة دولته وإمبراطوريته الخاصة، وبالتالي لم ينشئ كنيسة – بمعنى مؤسسة دينية في مواجهة مؤسسة الدولة- و منذ ذلك الحين أدرك المسلمون أن الحقيقة الدينية والسلطة السياسية مرتبطتين ارتباطا لا انفصام له، فقد أسبغت الأولى القدسية على الثانية، وساندت الثانية الأولى. ويصف لويس موقف الإسلام من الدولة بالبراجماتية وأنه "أقرب إلى ما ورد في الأسفار الأولى من العهد القديم وإلى مذهب ضرب العماليق بشدة منه إلى مواقف الأنبياء والأناجيل" (ص154) ومن هنا لم يأمر الإسلام أتباعه بأن يديروا خدهم الآخر أو أن يحرثوا الأرض بسيوفهم.
وتشكل هذه الخلفية التاريخية في اعتقاد لويس المعين الذي استقى منه الإرهابيون أفكارهم، فالإسلام في مخيلة هؤلاء لم يعرف طوال تاريخه إلا منطق القوة وليس له تجربة مماثلة لتجربة الاستضعاف والاضطهاد المسيحية، وبالتالي فمن الصعب قبول هؤلاء لهذا التراجع الإسلامي والخضوع للهيمنة الغربية، وبدورهم يعزون ذلك إلى تواطؤ النخب السياسية العربية (المرتدة) مع الإمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة (الكافرة) وهو ما يجعلهم إزاء عداء مزدوج يتوجب الجهاد ضده.
ويذهب لويس إلى أن الموجة الثورية الإسلامية لها مكونات عديدة، أحد هذه المكونات هو الشعور بالإذلال وهو شعور يتملك طائفة اعتادت أن تنظر لنفسها باعتبارها "الحارس الوحيد للحقيقة الإلهية" (ص67) وفجأة تكتشف هيمنة الكفار على مقدراتها، يضاف لذلك الإحباط العميق الناجم عن إخفاق تجارب الإصلاح الواحدة تلو الأخرى، وبعد ذلك يجيء مكون ثالث ضروري للانقضاض وهو الشعور بالقوة والثقة بالنفس وهما العنصران اللذان تكونا من امتلاك الثروة النفطية، وما تبعهما من تشكل عنصر جديد هو الازدراء للغرب الذي يعاني انحطاطا أخلاقيا واضحا. وفي اعتقاد لويس أن الإيديولوجية الإسلامية تتمتع بمزايا عديدة لا تتوفر لغيرها، فهي توفر أساسا للهوية، وقدرة فائقة على التوحيد الجماعي، وصياغة مقبولة للشرعية يمكن نقد الحاضر على أساسها والتخطيط للمستقبل، كما تتميز الحركات الإسلامية بميزة ضخمة أخرى وهي أن ميدان عملها المساجد وهي شبكة اتصالات واسعة ومفتوحة لا تستطيع أكثر الحكومات ديكتاتورية إحكام قبضتها عليها.
ويتحفظ لويس على توصيف هذه الحركات بالأصولية المصطلح البروتستنتي الأمريكي الذي استخدم بقصد تمييز بعض الكنائس التي اتسمت بالتحرر الديني ونقد الأناجيل، وهو ما لا ينطبق على هذه الجماعات وأتباعها، وإزاء ذلك يقدم لنا تعريفه للأصوليين "أنهم أولئك الذين يرون متاعب العالم الإسلامي في العصر الحاضر لا ترجع إلى عدم كفاية التحديث بل إلى الإفراط فيه" (ص148) ويستخدم لويس مصطلح التحديث في هذا السياق مرادفا للتغريب، وليس بمعنى التقانة التي لا يمكن أن تثير الاستياء من قبل هؤلاء أو غيرهم. ويبدو لنا أن غاية لويس هي تمديد دائرة الأصولية لتشمل كل من يرفض ويقاوم التغريب إلى جوار المتطرفين.
ويعزو لويس تصاعد المد الأصولي إلى اختفاء الحليف، فقد اعتاد المسلمين في مراحل تاريخية سابقة الاعتماد على شريك قوي في مواجهة الهيمنة الغربية، حين تحالفوا مع الرايخ الألماني ثم الاتحاد السوفيتي، وبعد سقوطه وجدوا أنفسهم في ساحة المواجهة بمفردهم وعليهم الاعتماد على قواهم الذاتية، وهي الحقيقة التي أدركها ابن لادن وأتباعه، وجاء تأسيس تنظيم القاعدة في ذات العام الذي سقط فيه الاتحاد السوفيتي تعبيرا عنها. وللإيهام بالتزامه نهج الموضوعية يناقش لويس شكوى المسلمين من إلصاق صفة الإسلامية بكل العمليات الإرهابية وتساؤلهم لماذا لا يوصف الإرهابيين الأيرلنديين والإرهاب الذي يمارسونه بأنه مسيحي، ويعلق أن الجواب بديهي وهو أنهم لا يصفون أنفسهم بذلك، ولا يجد لويس بدا من الإقرار أن ابن لادن والقاعدة ليسوا ممثلين للإسلام، لكنه يذهب إلى أنهم شبوا في إطار الحضارة الإسلامية ويتوجب النظر إليهم في إطار سياقاتهم الدينية والثقافية الخاصة. وإذا كان ما ذهب إليه لويس صحيحا من أن العلة الأساسية للعنف هي الحضارة الإسلامية فكيف يفسر إحجام سكان بعض الدول الإسلامية كنيجيريا وتركيا وبنجلاديش عن المشاركة في الممارسات الإرهابية، رغم أنها تمثل أضخم حشود إسلامية على مستوى العالم.


دافعية الكراهية والقراءات المغلوطة


يتعرض لويس بالتحليل لموجة الكراهية التي تسود العالم العربي تجاه الولايات المتحدة فيشير إلى أن هناك ثلاثة ادعاءات عربية بشأنها وهي: العلاقات الوطيدة مع إسرائيل، والإمبريالية الأمريكية، ومساندة الأنظمة العربية المستبدة، ونعود للتذكير بأن منهج لويس قائم على الانطلاق من مقدمات صحيحة وصولاً إلى نتائج خاطئة، ولننظر كيف عالج لويس هذه النقاط.
ويبدو لويس متشككا من أن الصراع العربي الإسرائيلي يمثل القضية المركزية للعرب، ويرى أن تضخيم الصراع تم عمدا من قبل الأنظمة العربية التي وجدت فيه متنفسا للقمع الذي تمارسه ضد شعوبها، فمن قبل لم يثر سقوط القدس في يد الصليبيين أي رد فعل سلبي من العرب واستغرق الأمر ما يقرب من قرن حتى حررها صلاح الدين- يلاحظ هنا أنه يقفز عمدا فوق جهاد زنكي ونور الدين محمود- ويضيف أن دعم الاتحاد السوفيتي السابق لإسرائيل لم يؤثر على الصداقة العربية السوفيتية، وإذا كان الأمر كذلك فمن المنطقي ألا يثير تأييد الولايات المتحدة لإسرائيل استياءً عربياً، وليس هذا فحسب بل إن العرب هم من دفع الولايات المتحدة دفعا إلى توثيق عرى علاقتها بإسرائيل حين عقد عبد الناصر صفقة توريد السلاح مع تشيكوسلوفاكيا عام 1955 والتي لم تجد الولايات المتحدة معها بدا من الاعتماد على إسرائيل لتنفيذ سياستها في المنطقة، وبالتالي فالعلاقة الإستراتيجية مع إسرائيل كانت نتيجة وليس سبباً للتغلغل السوفيتي. غير أن هذا التبرير يطرح تساؤلا منطقيا وهو لماذا لم تتأثر تلك العلاقة مع انهيار الاتحاد السوفيتي، و ما دواعي تصعيدها إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية؟
ووفق تلك القراءات المغلوطة لا يجد لويس حرجا في إعلان تأييده للدور الإمبريالي الذي تمارسه الولايات المتحدة منذ أوائل التسعينات في الخليج ثم العراق، ويتساءل لم أحجم المسلمون على إطلاق مسمى الإمبريالية الإسلامية على الإمبراطورية الواسعة التي أسسوها، ولماذا يوصم الوجود الأمريكي في العراق بها، وفي اعتقاده أن الإمبريالية الغربية كانت لها حسنات عدة ويكفي أن البلاد الإسلامية التي عانت من الإمبريالية أصابها حظا من التحديث أكبر من تلك البلدان التي لم تخضع لها، وراح لويس يذكر بمزايا الإمبريالية الغربية وبأنها من شيدت البنى الأساسية والخدمات العامة، وساعدت في دفع التغييرات الاجتماعية قدما " وبالذات إلغاء الرق والحد من تعدد الزوجات" (ص92) وبالتالي فمن المنتظر أن تكون للإمبريالية الأمريكية في العراق حسناتها الديمقراطية هي الأخرى. وبعد هذا المديح للإمبريالية هل نكون بعيدين عن الحقيقة إذا اعتبرنا لويس يستخدم مفارقات التاريخ أداة من أجل تبرير الإمبريالية ؟ وهل كان الراحل إدوارد سعيد بعيدا عنها حينما اتهمه بأنه "منظر ومدافع عن الكولونيالية".
ويتأتى بعد هذا مساندة الولايات المتحدة للأنظمة العربية الاستبدادية، ويعتقد لويس أنه أهم الادعاءات العربية لأنه يمس بشكل مباشر حياة المواطنين العرب الذين يعتقدون أن بقاء الأنظمة العربية الديكتاتورية لم يكن ممكنا لولا المساندة والدعم من جانب الولايات المتحدة التي تمارس نوعا من المعايير المزدوجة حين تتشدد في الالتزام بالديمقراطية والحرية السياسية في كثير من مناطق العالم، وتغض الطرف عن تلك المعايير في تعاملها مع المنطقة العربية. ومن ناحيته لا ينكر لويس معقولية هذا الادعاء ووجاهته لكنه يحرص على تشويهه تماما مدعيا أن بنية المجتمعات الإسلامية هي التي تفرز تلك النوعية الاستبدادية من الحكام، فهي مجتمعات تسمح بانتهاكات الحقوق المدنية والحريات السياسية، فضلا عن الجرائم ضد الإنسانية وكل هذا يعد مألوفا بالنسبة لها، ومن غير المنتظر -كما يعتقد لويس- أن يكون للديمقراطية وجود حقيقي في العالم العربي، نظرا لأن أي انتخابات حرة ستؤدي بالإسلاميين إلى السلطة، والديمقراطية بالنسبة لهؤلاء طريق إلى السلطة " لكنه طريق ذو اتجاه واحد لا رجوع فيه" (ص131) ويخلص من هذا إلى أن المنطقة لن تحكم في المستقبل إلا بحكام مستبدين فاسدين، وبالتالي " ليس من شأن الغرب إصلاحهم، أو حتى تغييرهم بل مجرد ضمان أن يكون هؤلاء المستبدون أصدقاء غير معادين للمصالح الغربية" (ص126).
خلاصة ما يرمي إليه لويس تفريغ محتوى هذه الادعاءات ومحاولة الإيهام بأن العداء للولايات المتحدة لا يستند إلى مبررات منطقية ومعقولة، وإنما هو محض عداء للحضارة الغربية بما تمثله من رؤية للحياة، وعليه فإن الصدام مع الإسلام وأتباعه واقع لا محالة حسبما تنبأ بذلك صامويل هنتجتون.



نشر بموقع ببليوإسلام


ليست هناك تعليقات: