الأحد، 23 نوفمبر 2008

من صيغة الأنثى.. إلى صيغة مواطن!!


المنامة هالة كمال الدين

الإشادة التي جاءت على لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش بتطور واقع المرأة البحرينية، وتأكيده أن سيدة الأعمال البحرينية هدى جناحي التي أدرجت على قائمة أقوى سيدات الأعمال في العالم تعد مفخرة للنساء في العالم العربي، إن دلت على شيء فإنما تدل على ما حظيت به المرأة البحرينية من دعم وتقدير خلال السنوات الأخيرة التي انطلق خلالها المشروع الإصلاحي للملك. فبالفعل استطاعت المرأة البحرينية خاصة والخليجية عامة خلال الفترة الأخيرة أن تضع قدميها على الطريق، وان تنطلق في عالم السياسة والاقتصاد بخطى ثابتة، وذلك رغم وجود الصيحات التي تطالب بتكسير أجنحتها، إلا أنها وبفضل عزمها على التحليق في عالم الانجازات، تمكنت من أن تترك بصماتها، حتى لو كانت بصمات باهتة في بعض الأحيان!
هذا ما أكده أيضا كتاب (تمكين المرأة الخليجية، جدل الداخل والخارج) من تأليف فاطمة حافظ والصادر عن مركز الإمارات للدراسات والذي نشر مؤخرا في جريدة أخبار الخليج ملخص لمضمونه. تقول المؤلفة ان منطقة الخليج العربي شهدت مع بداية الألفية الجديدة تطورات حثيثة يمكن وصفها بأنها الأبرز على صعيد تمكين النساء في العالم العربي بأسره، ففي بضع سنين فاق حجم المتغيرات وما خلفته من تأثيرات جملة ما تحقق في أوضاع النساء طوال عقود، وتحديدا منذ انتهاج دول هذه المنطقة سياسة تعليم الفتيات. ما يشد الانتباه من وجهة نظر الكاتبة هو تبني جهات عديدة داخلية وخارجية سياسة تمكين المرأة في الخليج، مما يحمل دلالتين، الأولى وجود تغير بنيوي طرأ على رؤيتها المتعلقة بادوار النساء ووظائفهن بالتحول من صيغة الأنثى إلى صيغة المواطن، وذلك بعد المرور بأزمات عميقة لتقبل هذا التحول، والدلالة الثانية ترتبط بالتأييد الجارف الذي باتت تلقاه سياسة تمكين المرأة الخليجية من قبل جهات ومؤسسات أجنبية، حيث احتلت قضية تمكين المرأة الخليجية في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر موقعها على أجندة السياسة الغربية، وفي القلب منها الولايات المتحدة الأمريكية. لعل أهم ما تطرقت إليه الكاتبة هو تأكيدها أن أوضاع النساء في دول الخليج تظل رهنا بالإرادة السياسية للدولة، ولا يحكمها التصديق على المواثيق والمعاهدات الدولية، بدليل أن قطر وعمان لم توقعا اتفاقية مناهضة كل أشكال العنف ضد المرأة (السيداو)، ورغم ذلك تصنف أوضاع المرأة بهاتين الدولتين بأنها الأفضل خليجيا. إذن العبرة ليست بالقوانين والاتفاقيات.. وإنما بالإرادة والقناعة.. والثقافة السائدة..! فهنيئا لهدى جناحي.. ولكل امرأة انتصرت في معركة التمكين!
نشر بجريدة أخبار الخليج

فاطمة حافظ في «تمكين المرأة الخليجية: جدل الداخل والخارج» تمكين المرأة الخليجية إجراء تجميلي كاذب



المنامة - سامية الجبالي
على رغم أنها تعمل على تقديم المرأة في قالب يرضي المنظمات الدولية، فإن هذه الصورة التي تقدمها غالبية الدول الخليجية لا تتعدى كونها «إجراءات تجميلية المقصود منها التدليل على أن مؤسسة الدولة تتبع نهج الحداثة السياسية».وتشير الباحثة فاطمة حافظ في كتابها «تمكين المرأة الخليجية: جدل الداخل والخارج» الذي يندرج ضمن العدد 128 من سلسلة «دراسات استراتيجية» الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، إلى أن الحكومات الخليجية تسارع في عمليات تمكين المرأة داخل مؤسسات الدولة من دون أن تهتم بتهيئة المناخ الاجتماعي المناسب لتبني هذه العمليات وإنجاحها. وتخلص الكاتبة في دراستها إلى أن تمكين المرأة يخضع لاتجاهين متضادين، اتجاه أول يسعى إلى إقرار المساواة بينها وبين الرجل على مستوى الفرص الوظيفية والأجور، في مقابل اتجاه ثان يكرس التفرقة الوظيفية بين الجنسين على مستوى الترقيات الذي يستأثر به الرجال، وذلك على رغم حصول المرأة الخليجية على حصص متقدمة من التعليم.يحتوي كتاب «تمكين المرأة الخليجية: جدل الداخل والخارج» على 92 صفحة تطرقت فيها حافظ إلى مفهوم التمكين، إذ انتهت إلى تأكيد أن التمكين هو عبارة عن «مرحلة انتقالية» تطبق فيها مجموعة من السياسات العامة والإجراءات الهادفة إلى «دعم مشاركة المرأة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من أجل تجاوز وضعية الاستضعاف والتهميش التي توارثتها منذ قرون».كما تناولت الباحثة بالدرس مختلف المراحل والاتجاهات التي مرت بها قضايا المرأة الخليجية، وعمدت بموجب ذلك إلى تقسيمها إلى ثلاث مراحل رئيسية هي على التوالي: مرحلة ما قبل النفط التي تميزت بغياب المرأة عن الإطار العام على رغم بروز بضعة تمظهرات وعي نسوي في المنطقة وخصوصا في البحرين والكويت، لكن الكاتبة تقر بأن هذه الحقبة التاريخية لم تشهد بروز مطالب جدية وجادة بحقوق المرأة.المرحلة الثانية هي مرحلة النفط، وهي المرحلة التي شهدت فيها المنطقة وفرة اقتصادية أثرت نسبياً على المستوى الاجتماعي، ذلك أن أوضاع المرأة لم تتغير إلا على المستوى الكمي، إذ مكّنت المرأة من فرص التعليم والعمل ولكن في إطار تقليدي يكرّس الرؤى التقليدية للمرأة، وهو ما اعتبرته الكاتبة «تحديثاً قشرياً زائفاً»، أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة ما بعد النفط، وهي المرحلة التي علت فيها أصوات النساء في الخليج دفاعاً عن حقوقهن ومطالبة بالتغيير الاجتماعي، ولكن هذه المطالبات لم تتنصل من المرجعيات الدينية، إذ إن كل المطالب كانت تنضوي تحت إطار ديني.في القسم الثالث من الكتاب تعرضت الكاتبة إلى مختلف السياسات التي انتهجتها الدول الخليجية في تمكين المرأة، إذ انتهت إلى تأكيد أن غالبيتها لم يراع تهيئة البيئة الاجتماعية والمجتمعية التي من شأنها أن تحتضن المثال النسوي العالمي، وهو المثال الذي تقيّم فيه المرأة بالاستناد إلى ما تمتلكه من كفاءة.وتختم الباحثة دراستها بالحديث عن «قوى العولمة وتمكين المرأة الخليجية»، إذ تشير إلى أن حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول دفعت قدماً بقضايا المرأة العربية والخليجية خصوصاً، إذ اعتبرت الأمم المتحدة قضايا المرأة «شاغلاً إنمائياً جدياً» عملت بمقتضاه على الترويج لعدد من المفاهيم المرتبطة برؤيتها التنموية الخاصة، وتذهب الكاتبة إلى تأكيد أن أكثر الإشكالات التي اعترضت الأمم المتحدة في تطبيقها لأجندتها تكمن في تعاملها «التهميشي مع الدين».

مقال منشور بجريدة الوسط البحرينية : العدد 2134 الخميس 10 يوليو 2008 الموافق 7 رجب 1429


أوقاف النساء.. ميراث من الفاعلية

فاطمة حافظ
هناك افتراض شائع مؤداه أن حالة من السلبية والتواكل والانكفاء حول الذات قد غلبت على مشاركة المرأة في التاريخ الإسلامي، وهو الافتراض الذي تحول إلى قناعة رسختها سلسلة من الأدبيات التاريخية مثل: ألف ليلة وليلة، والمؤلفات الباكرة للمستشرقين. وتمتد حالة السلبية والاستضعاف إلى الواقع المعاصر -وفقا لرؤية الأمم المتحدة - التي تجمع تقاريرها أن المرأة المسلمة تعاني من التهميش التاريخي المتجذر في بنية الثقافة الإسلامية، وبفعل التهميش تم إقصاؤها من عملية التنمية واستبعادها من المشاركة في الموارد الاقتصادية. وإذا ما أريد النهوض بواقع المرأة ينبغي أن يتم دمجها في عملية التنمية الاقتصادية إذ هي السبيل الوحيد للنهوض بأوضاعها.
تلك بإيجاز مجمل رؤية المنظمة الدولية لواقع المرأة المسلمة، وإشكاليتها الأساسية تجاهلها أن تعدد الثقافات لابد أن ينتج عنه اختلاف في أشكال الممارسة التاريخية، ذلك أنها تنطلق من رؤية أحادية للتاريخ هي الرؤية الغربية ، وعلى ضوئها تتم محاكمة ومقاضاة تاريخ الشعوب والحضارات الأخرى، فما توافق منه مع التاريخ الغربي اعتبر تقدما وما اختلف عنه عُد تخلفا.
وانطلاقا من تلك الرؤية المبتورة أحجمت الأمم المتحدة عن النظر إلى الوقف باعتباره تجربة تنموية إسلامية، وخبرة تاريخية لم تعهدها الحضارة الغربية، وتجاهلته كلية في إطار تقاريرها وبياناتها التي تصدرها والمعنية برصد واقع التنمية في البلاد الإسلامية وعلاقة المرأة بها؛ وهذا الإحجام له ما يبرره إذ أن الإتيان على دور المرأة في الوقف يبدد الادعاءات القائلة بتهميش المرأة وينفي سلبيتها ويبرز فاعليتها. وإزاء هذا التجاهل فإننا نجد أن هناك ضرورة ملحة في التعريف بماهية الوقف وإسهام النساء خلاله.
الأوقاف: المنشأ والوظيفة

الوقف لغويا هو الحبس، ويعني في الشريعة حبس المال أو وقفه سواء كان على شكل عقار أو محل تجاري أو غيرهما لينفق من ريعه على من يحتاج من طلاب العلم أو اليتامى والأرامل وغيرهم كنوع من أنواع الصدقة الجارية.
وقد تزامن ظهور الوقف مع البدايات الأولى لتشكل المجتمع الإسلامي بمؤسساته وتنظيماته فلم ينشأ سابقا عنه أو لاحقا له؛ إذ روي عن الإمام الشافعي قوله "لم يكن أهل الجاهلية يوقفون". وينظر إلى الوقف باعتباره المؤسسة الإسلامية الأكبر لرعاية الفئات والشرائح المجتمعية الأضعف في المجتمع (الفقراء، اليتامى، الأرامل) وهو يتسم بصفات خاصة تميزه عن غيره من تنظيمات المجتمع المدني الحديثة الوافدة من الغرب، ومن أهمها
1- الوقف نظام (عقائدي/اجتماعي) ارتبط بالقيم القرآنية مثل التراحم، التواد، الإحسان وميزته الأساسية أنه استطاع الانتقال بهذه القيم من الإطار النظري إلى حيز الممارسة الواقعية التي جسدتها مؤسسات الوقف الخيرية.
2- انتشر الوقف في جميع أنحاء العالم الإسلامي دون استثناء فأينما وجد الإسلام وجد معه الوقف، وبفعل انتشاره لم تكن المشاركة فيه قاصرة على فئات بعينها دون أخرى فقد أسهم فيه ذوي الشرائح الوسطى إلى جانب الأغنياء، كما انخرطت فيه النساء إلى جوار الرجال سواء بسواء.
3- وفر الوقف مساحة الاستقلالية للمجتمع في مقابل الدولة؛ ولذلك عندما عجزت الدولة عن الوفاء باحتياجاتها في فترات تدهورها استطاعت المؤسسات الوقفية أن تنهض بهذه المهمة بديلا عن مؤسسة الدولة؛ فكانت لها اليد الطولى في مجالات مثل: التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.
4- يتسم الوقف بالأصالة والعراقة فقد نشأ في ظل الأمة وتطور معها وأوجد له منظومة فقهية كاملة تدور في فلكه، وبالتالي هو ليس مفهوما وافدا وطارئا مثل " المجتمع المدني" الذي يفتقر إلى الشرعية الدينية والقبول الاجتماعي حيث أن بعضا من أسسه لا تتفق مع المبادئ الإسلامية.

الفاعلية النسائية

المتابع لموضوع الوقف لا يدهشه حجم المشاركة النسائية الواسعة فيه سواء من حيث المبادرة إلى بناء الأوقاف أو إدارة المنشآت الوقفية. وهو ما يفسره البعض على ضوء الطبيعة العاطفية للنساء وأنهن الأكثر تأثرا بحاجة الغير، على حين يرجعها آخرون إلى الفاعلية النسائية والرغبة في الإسهام العمراني الذي حث عليه الإسلام.
وتعود الإسهامات الوقفية النسائية الأولى إلى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن فهن أول من أوقف من النساء، على حين تؤول أول إدارة نسائية للوقف إلى أم المؤمنين السيدة حفصة رضي الله عنها التي عهد إليها الخليفة عمر بن الخطاب بمهمة الإشراف على بعض الأوقاف التي يملكها في حال وفاته؛ فدلل هذا على جواز ولاية المرأة للوقف.
على امتداد التاريخ الإسلامي لم تتوقف إسهامات النساء في الوقف، وكما تشير الإحصاءات فإن أوقاف النساء تبلغ حوالي 25 بالمائة من حجم الأوقاف الحالية في العالم الإسلامي، ويبدو أن هذه النسبة تمثل متوسط المشاركة النسائية إذ ترتفع النسبة في الدول الخليجية حتى تصل إلى 40 بالمائة. وهو إن دلل على شيء فهو أن نساء الخليج لسن سلبيات كما تروج وسائل الإعلام، وإنما يشغلهن هاجس المشاركة في العمل العام ولكنه يظل مضمرا في ظل التغطية الإعلامية المبتورة.
الاستثمار في المعرفة

عرف عن النساء أنهن أوقفن في كافة مجالات الوقف فلم تكن إسهاماتهن قاصرة على مجال دون آخر ولكننا نلمس أن هناك حضورا نسائيا مميزا في مجال إنتاج المعرفة ونشر العلم ويكفي أن ندلل على ذلك بالسيدة فاطمة الفهرية التي أوقفت لبناء جامع القرويين الذي أضحى أول جامعة في المغرب العربي.
ومن فاطمة الفهرية في القرن السابع الميلادي إلى فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل في القرن العشرين التي أوقفت لبناء جامعة القاهرة العريقة؛ مرورا بعدد ضخم من الواقفات في مجال إنشاء المدارس والمكتبات، نلمس امتداد تاريخيا وتراثا من الفاعلية النسائية متصلا من السلف إلى الخلف يعبر عن الإيمان بالرسالة الحضارية للأمة.
المشاركة النسائية بين الانضباط والانحراف

وعلى الرغم من اتساع دور النساء الوقفي؛ فقد ظل هذا الدور منضبطا على الدوام بضوابط معينة لم تحرفه عن مساره، فقد انطلق من الإسلام وقيمه، وارتبط بالأمة وقضاياها، ولم يتحول في أي مرحلة من مراحله إلى إنتاج خطاب نسوي ينفلت عن خطاب الأمة العام أو يشذ عن ثوابتها الأخلاقية، ولم يجد يوما أي أرضية تجمعه مع أعداء الأمة. وهو ما تفتقر إليه الممارسات النسوية المعاصرة التي تبنت الطرح الغربي الذي تروج له الأمم المتحدة، فانتهجت بذلك سبيلا يشق الأمة ويفرق بين نساءها ورجالها، وتبنت مزاعمه بشأن سلبية دور المرأة في التاريخ الإسلامي دون أن تنظر إلى الوقف باعتباره نموذجا تجلت فيه الفاعلية النسائية في أوضح صورها.
نشر بموقع لواء الشريعة

يوم المرأة العالمي: مقاربة إسلامية

فاطمة حافظ
ما إن يحل شهر مارس من كل عام حتى يتجدد معه الجدل حول اليوم العالمي للمرأة بين المؤيدين والمعارضين، ويرتبط هذا الجدل بالنقاشات الدائرة حول اتفاقية مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة ومؤتمر بكين وغيرها من الفعاليات النسوية الأممية؛ فما الذي يعنيه ذلك اليوم، وما هي الدلالات التي يحملها؟ وكيف يتم توظيفه سياسيا من قبل بعض الجهات الدولية؟
تعود الجذور التاريخية ليوم المرأة العالمي إلى تلك التظاهرات التي قامت بها عاملات النسيج في المصانع الأمريكية في الثامن من مارس (1857) للمطالبة بخفض عدد ساعات العمل ورفع الأجور، وهي التظاهرات التي تجددت في نيويورك بعد مرور ما يقرب من نصف قرن وتحديدا عام (1909) حين تظاهرت النساء للمطالبة بحقوقهن الاقتصادية التي أضيفت إليها الحقوق السياسية وبخاصة منح النساء حق الاقتراع العام.
وقد اصطبغت تلك التظاهرات النسائية بصبغة يسارية إذ أن المشاركات فيها كن عضوات في الحزب الاشتراكي الأمريكي ورددن الشعارات الماركسية، ولهذا جرى أول احتفاء بهذه التظاهرات من قبل الكومنترن (التنظيم الاشتراكي الدولي). وما إن نجحت الثورة البلشفية في روسيا حتى جرى تخصيص يوم للمرأة الروسية.
أما على صعيد الحركة النسوية الأوروبية فقد رأت المجتمعات في المؤتمر النسائي الدولي أن التظاهرات الأمريكية التي تصادف وقوعها في الثامن من مارس يمكن أن تصبح يوما للمرأة، وعلى هذا جرى الاحتفال بهذا اليوم للمرة الأولى عام (1910)، غير أن الاحتفال لم يتخذ طابعه الأممي إلا مع إقراره من قبل الأمم المتحدة يوما "عالميا" للمرأة عام ( 1977) بعد أن ظل الاحتفال به قاصرا على العالم الغربي.
هناك عدد من التساؤلات تفرض نفسها في هذا السياق، ومنها لماذا تم اختيار هذا اليوم تحديدا وكان بالإمكان اختيار يوم يرتبط بانخراط النساء في مناسبة وطنية، ولماذا لم يتم الالتفات إليه إلا بعد مضي عقود، ولماذا تم تعميم هذا اليوم على العالم بأسره ؟ وهي تساؤلات قد لا تفهم إلا في سياق محاولة بعض الدول الغربية فرض منظورها على الأمم المتحدة في النظر إلى قضايا المرأة باعتبارها قضايا دولية، وأداة من أدوات التدخل السياسي للضغط على بعض الدول النامية.
وبغض النظر عن السياق الذي تم فيه اعتبار هذا اليوم مناسبة عالمية؛ فإن هناك عددا من الملاحظات المرتبطة بالواقع العربي الإسلامي يمكن أن نوجزها على النحو التالي:
أولا: أفضى تخصيص الأمم المتحدة يوما عالميا للمرأة إلى تحوله إلى احتفالية كبرى تشارك فيها النساء على اختلاف أجناسهن وثقافتهن، وهنا لابد أن نشير إلى أن فلسفة الاحتفال في الإسلام لا تقوم على تلك النظرة التجزيئية؛ فليس هناك أياما تحتفل فيها النساء وأياما أخر يحتفل بها الرجال؛ فالاحتفال يرتبط بمناسبة دينية ويشمل الأمة بأسرها رجالها ونساءها وأطفالها؛ فيصبح أداة للتوحيد بدلا من أن يكون معولا للتفريق والتمزيق بين عناصر الأمة. من جانب آخر فإن تخصيص يوم للمرأة يعني أن هذا اليوم يعد "استثناء" بين الأيام حيث تحظى فيه النساء بالتكريم أما بقية الأيام فإنهن محرومات من التقدير، وهذه الرؤية تتنافى مع تعاليم الشريعة التي تنظر للإنسان ذكرا كان أم أنثى باعتباره مستحقا للتكريم والاحترام انطلاقا من مبدأ الاستخلاف الإلهي.
ثانيا: يرتبط هذا اليوم بمناسبة تدور حول الحق /المادي؛ فالنساء اللواتي تظاهرن تحركن بدافع مادي، ورغم أن الشريعة الإسلامية تقر بأن الحقوق المادية هي جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان وأن حفظ المال مقصد من مقاصد الشريعة، إلا أن الحقوق المادية هي مجرد جزء من منظومة الحقوق الإنسانية؛ فلا ينبغي أن يطغى الجزء على الكل أو أن يختزل الجزء الكل. وإذا كان هذا له ما يبرره في الحضارة الغربية التي تعلي من شأن الحق المادي وتجعل منه أهم حقوق الإنسان على الإطلاق، فإن هذا غير جائز إسلاميا إذ أن للإنسان حقوقا متعددة تتساوى في الأهمية، ولا يمكن أن يحل أحدها بديلا عن بقية الحقوق.
ثالثا: تم توظيف يوم المرأة العالمي ليكون أداة في يد الولايات المتحدة والقوى الأوروبية لتسهيل مهمتها الاستعمارية في العراق وأفغانستان، وفي هذا الصدد نشير أن نهج الإدارة الأمريكية الحالية لا يخرج عما ذهب إليه اللورد كرومر (ممثل الاستعمار القديم) حين جعل من مسألة تحرير المرأة المسلمة من ربقة الرجل المسلم أحد مبررات قدوم جحافل الاستعمار الغربي إلى الشرق الإسلامي، وتكرر الولايات المتحدة اليوم نفس الديباجات الاستعمارية؛ فتزعم أن تمكين المرأة ورفع الغبن الواقع عليها أحد دوافعها لاحتلال العراق وأفغانستان، في محاولة لإضفاء الطابع الأخلاقي على الاستعمار الأمريكي.
رابعا: تحول يوم المرأة إلى مناسبة سنوية لابتعاث وفود نسائية من العراق وأفغانستان لحضور الاحتفال في العاصمة واشنطن حيث يخضعن لعدد من الدورات النسائية ويجتمعن مع المسئولين في الإدارة الأمريكية وضمن هذا الإطار التقى الرئيس بوش في مارس 2006 وفودا نسائية من الدولتين، وأشاد بالخطوات الهائلة التي قطعتها المرأة في أفغانستان والعراق منذ الإطاحة بنظامي طالبان وحزب البعث.
خامسا: رغم إعلان الأمم المتحدة الثامن من مارس يوما للمرأة منذ عام 1977 إلا أن الحكومات العربية لم تلق له بالا إلا في أعقاب مؤتمر بكين، ذلك أنه بات يشكل جزءا من الأجندة الدولية التي تم فرضها على الدول العربية والإسلامية. ويغلب على الاحتفالات العربية بهذا اليوم الطابع النخبوي حيث تظهر سيدات الطبقة العليا من عضوات الجمعيات النسائية التي تجني الأرباح الكبيرة باسم الدفاع عن حقوق المرأة والتي لا تظهر إلا في المناسبات التي تكون الكاميرا فيها حاضرة. ويتباهين بما حققته المرأة من مكاسب وما اعتلته من مناصب قيادية، بينما يغيب عن الاحتفال أي تمثيل للقاعدة الشعبية من النساء اللواتي لا يدركن ماهية هذا اليوم وما المراد من جعله احتفالية عالمية.
إن ما قدمناه من ملاحظات يؤكد أننا لا نؤسس رفضنا ليوم المرأة العالمي انطلاقا من اعتراضنا على دعاوى العالمية أو المشتركات الإنسانية التي يمكن أن تشكل أرضية ملائمة لتجمع دولي يتم خلاله تبادل الخبرات النسائية، وإنما رفضنا ينطلق من أن بعضا من أسسه ومرتكزاته التي يتأسس عليها لا تتفق مع الشريعة الإسلامية، وأنه صار يوظف سياسيا وحضاريا بحيث أصبح أداة لتحوير هوية النساء المسلمات ومحاولة لإعلان تفوق النموذج الحضاري الغربي على ما عداه من نماذج حضارية.
نشر بموقع لواء الشريعة

الجمعة، 21 نوفمبر 2008

برنارد لويس .. حين تنحاز المعرفة إلى الكولونيالية


فاطمة حافظ


منذ أصدر إدوارد سعيد كتابه (الاستشراق) الذي درس من خلاله جدل الابستمولوجيا والسلطة في الغرب والأصداء لا تزال تتردد حوله، وقد أسس (الاستشراق) لمجموعتين من الأسئلة بعضها يثار حول من يكتب ويدرس الاستشراق وبأية أغراض، وبعضها الآخر يتعلق بالمنهج ويتركز حول التأثيرات التي تمارسها أجواء السياسة على المنتج المعرفي الاستشراقي، وما إمكانية إنتاج معرفة غير متحيزة في ظل الانغماس في السياسة ؟ وهي أسئلة نجد أن التوقف أمام برنارد لويس أحد رموز الحركة الاستشراقية المعاصرة ربما يسهم في إجلاء الصورة حولها حيث نعرض لكتابه أزمة الإسلام الصادر عام 2004.


ملاحظات أولية حول السيرة والمنهج


ينتمي المؤرخ الشهير لأسرة بريطانية ذات أصول يهودية، شغف بدراسة التاريخ ونال درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي عام 1939من جامعة لندن التي عين أستاذا بها، وخلال الحرب العالمية الثانية التحق بخدمة المخابرات البريطانية كخبير لدراسات المشرق العربي، وعلى الرغم من عودته للتدريس بالجامعة بعد انتهاء الحرب، إلا أنه صلاته مع المخابرات لم تنقطع. وفي أوائل السبعينات ومع تلاشي الإمبراطورية البريطانية في المنطقة أدرك لويس أن استقراره ببريطانيا لم يعد له ما يبرره فقرر الرحيل إلى الولايات المتحدة- ألا يعيد ذلك إلى الأذهان ذكرى انتقال مركز الحركة الصهيونية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية- وهناك حل في جامعة برينستون ووضع إمكانياته المعرفية في خدمة كل من المشروع الإمبريالي الأمريكي الصاعد، والمشروع الصهيوني. وقد تتلمذ على يديه عدد كبير من العاملين الآن في حقل الدراسات الاستشراقية والذين يعملون كخبراء ومستشارين للمحافظين الجدد من أعضاء مجلس الأمن القومي والعاملين في وزارتي الخارجية والدفاع.
ولويس على صلة وثيقة بدوائر صنع القرار في واشنطن وتل أبيب، حيث عمل مستشاراً لعدد من رؤساء وزراء إسرائيل بينهم ارييل شارون، وتحرص الجامعة العبرية على الاحتفال بعيد ميلاده كل عام ويلبي لويس الدعوة بصحبة زوجته الإسرائيلية وبصحبة عدد من السياسيين الإسرائيليين والأمريكيين، وهو أحد واضعي أسس السياسة الأمريكية في العالم العربي، ويذكر انه التقى الرئيس الأمريكي ووزير دفاعه بعد أسبوع واحد فقط من تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، ويعزى إلى أفكاره تلك النقلة النوعية في السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة فهو من اقترح غزو العراق عسكرياً لغرس بذور الديمقراطية في العالم العربي، وقدم صديقه أحمد الجلبي للإدارة الأمريكية باعتباره عنصرا يمكن الاعتماد عليه في ذلك.
وقد وضع لويس ما يربو عن العشرين مؤلفا حول الإسلام، وإن كنا نلحظ بوجه عام أن كتاباته التاريخية الأولى لا يعوزها الدقة والالتزام المنهجي فقد كتبها باحث كان يبدو آنذاك واعدا أتقن ثماني لغات شرقية مما أتاح له الإطلاع على المنتج المعرفي الشرقي عن كثب، في حين تأتي مؤلفاته الأخيرة أشبه بالمنشورات الدعائية منها للدراسات العلمية، تغلفها غلالة أكاديمية رقيقة لإضفاء بعض المصداقية عليها، ومن أمثلتها كتابه (أين الخطأ) الذي صدر في أعقاب هجوم الحادي من سبتمبر والذي نفد فور صدوره وأعيدت طباعته عدة مرات، وكتابه الذي نعرض له (أزمة الإسلام) والذي قوبل بذات الحفاوة. وقبيل استعراضنا لأبرز ما أورده لويس من ادعاءات نشير إلى بعض سمات وملامح المنهج الذي اختطه لنفسه في هذه الكتاب.
الاجتزاء والتعميم: يعمد لويس في مواضع عديدة إلى التقاط بعض الشواهد الفردية، ويقوم بتعميمها على التاريخ الإسلامي وواقع المسلمين ككل، ومن ذلك زعمه أن اهتمام المسلمين بمدينة القدس اهتمام محدث يعود إلى القرن التاسع عشر فقط، وهو يستند إلى واقعة تنازل أحد الأمراء الأيوبيين عن المدينة المقدسة للملك فريدريك الصليبي ويعممها على التاريخ الإسلامي ككل، وذلك بغض النظر عن ملابسات التسليم، والاستنكار الشعبي الذي قوبل به. ومنها أيضا اقتباسه بيان صحفي نشرته جريدة القدس العربي بتاريخ 23 فبراير 1998 حمل توقيع ابن لادن و زعماء جماعات الجهاد في مصر وباكستان وبنجلاديش، ودعا البيان المسلمين إلى " قتال الأمريكيين الكفرة وحلفاءهم" إلى حين خروج قواتهم مدحورة من جزيرة العرب. وبغض النظر عن الاعتماد على مصدر أوحد للمعلومات دون تعزيزه بمصادر أخرى، وإمكانية تلفيق هذا البيان، يتخذ لويس مما جاء فيه دليلا على عدوانية المسلمين جميعا وتكفيرهم لغيرهم وحرصهم على إبادة أتباع الديانات الأخرى.
المقدمات الصحيحة والنتائج الخاطئة: ينطلق لويس في كثير من الأحيان من مقدمات وفرضيات مبدئية صحيحة وبدلا من أن يقود القارئ بالتبعية إلى نتائج صحيحة فإنه يصل به إلى نتائج مشوهة، وأحد أبرز الأمثلة على ذلك قوله" إن معظم المسلمين ليسوا من الأصوليين، كما أن معظم الأصوليين ليسوا إرهابيين، لكن معظم الإرهابيين في عصرنا مسلمون " (ص151). وحين تناول الادعاء القائل بأن الإسلام يمثل العدو الجديد للغرب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، أقر أن الإسلام في ذاته ليس عدوا، وأن أعداد متزايدة من المسلمين ترغب في إقامة علاقات طيبة مع الغرب، ولكنه يردف بعد ذلك مباشرة قائلا " لكن عدداً كبيراً من المسلمين وبوجه خاص الأصوليون... يعتبرون معادين وخطرين، ليس لأننا بحاجة إلى وجود عدو ولكن لأنهم هم بحاجة إلى ذلك" (ص71)
الثنائيات المتعارضة: ونقصد بهاوضع مصطلح أو مفهوم في مقابل آخر لا يقابله، وهو ما مارسه لويس على نطاق واسع في الكتاب، فحين تعرض لمفهوم الجهاد ذكر أنه " المقابل الإسلامي للحروب الصليبية، وينظر إلى اللفظين على أنهما مترادفين، وذلك صحيح إلى حد ما" (ص78) وحين تناول لقب خليفة عده موازياً للقب ظل الله على الأرض، ويرمي لويس من وراء ذلك إلى تشويه المفاهيم الإسلامية وتفريغها من مضمونها، وتحميلها بمضامين دخيلة.
الغموض: بعض إشارات لويس لا تعد إشارات تفصيلية تامة المعنى، ولكنها أقرب إلى التلميحات القصيرة غير المكتملة، وهو يلجأ إليها إدراكا منه أن بعض المخاطبين بها والذين لا يعرفون سوى القليل عن الإسلام سيتلقونها وستترك أثرها في التشويش على أذهانهم، ومن أمثلة عباراته الغامضة تلك التي تناول فيها طبيعة المسجد في الإسلام "أما في العصور الحديثة فقد وقعت تغييرات كثيرة ترجع أساساً إلى التأثير الغربي، حيث ظهرت مؤسسات ومهن أشبه بالكنائس والرهبان في العالم المسيحي إلى حد يثير الشك" (ص59) فما هي طبيعة تلك المؤسسات والمهن، وأين ومتى ظهرت.


من الجهاد إلى الإرهاب.. الالتباس المتعمد


الغاية الأساسية التي من أجلها وضع لويس مؤلفه هي محاولة افتعال رابط بين مفهوم الجهاد وبين مفهوم الإرهاب، وهو ما يبدو جليا من عنوان الكتاب، ويعتمد لويس تعريفاً للجهاد يسمح بوجود هذا الخلط المفاهيمي- في حين يحجم عن تقديم تعريف مماثل للإرهاب- فيذهب إلى أنه عبر أربعة عشر قرنا انصرف مفهوم الجهاد إلى الكفاح المسلح والحربي دون الجهاد المعنوي، وأن العالم يتشكل وفق رؤية المسلمين إلى دار الإسلام ودار الحرب، والمفترض أن واجب الجهاد سيستمر إلى أن يعتنق العالم بأجمعه الإسلام أو يخضع للحكم الإسلامي، ويطرح لويس الجهاد على أنه المقابل الإسلامي للحروب الصليبية، فكلاهما شن ضد عدو كافر، لكنه ينبري مدافعا عن الحروب الصليبية فيصفها بأنها تمثل تطورا متأخرا للعالم المسيحي وابتعاداً عن جوهر المسيحية، والأهم من ذلك محدوديتها النسبية وأنها ردة فعل على الهجمات الإسلامية، أما الجهاد فهو حاضر منذ بداية التاريخ الإسلامي وتحث عليه النصوص المقدسة. وهنا نلمح أن لويس يعاني من تناقضات المنهج فهو يبيح لنفسه تعميم واقعة التنازل على مدينة القدس على تاريخ الإسلام، في حين ينظر للحروب الصليبية التي استمرت قرابة الثلاثة قرون على أنها محدودة نسبيا ولا تعبر عن التاريخ المسيحي.
وحسبما يرى لويس فقد انطلقت مسيرة "الجهاد العربي" على يد مؤسس الإسلام (النبي/ القيصر) الذي نجح في إقامة دولته وإمبراطوريته الخاصة، وبالتالي لم ينشئ كنيسة – بمعنى مؤسسة دينية في مواجهة مؤسسة الدولة- و منذ ذلك الحين أدرك المسلمون أن الحقيقة الدينية والسلطة السياسية مرتبطتين ارتباطا لا انفصام له، فقد أسبغت الأولى القدسية على الثانية، وساندت الثانية الأولى. ويصف لويس موقف الإسلام من الدولة بالبراجماتية وأنه "أقرب إلى ما ورد في الأسفار الأولى من العهد القديم وإلى مذهب ضرب العماليق بشدة منه إلى مواقف الأنبياء والأناجيل" (ص154) ومن هنا لم يأمر الإسلام أتباعه بأن يديروا خدهم الآخر أو أن يحرثوا الأرض بسيوفهم.
وتشكل هذه الخلفية التاريخية في اعتقاد لويس المعين الذي استقى منه الإرهابيون أفكارهم، فالإسلام في مخيلة هؤلاء لم يعرف طوال تاريخه إلا منطق القوة وليس له تجربة مماثلة لتجربة الاستضعاف والاضطهاد المسيحية، وبالتالي فمن الصعب قبول هؤلاء لهذا التراجع الإسلامي والخضوع للهيمنة الغربية، وبدورهم يعزون ذلك إلى تواطؤ النخب السياسية العربية (المرتدة) مع الإمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة (الكافرة) وهو ما يجعلهم إزاء عداء مزدوج يتوجب الجهاد ضده.
ويذهب لويس إلى أن الموجة الثورية الإسلامية لها مكونات عديدة، أحد هذه المكونات هو الشعور بالإذلال وهو شعور يتملك طائفة اعتادت أن تنظر لنفسها باعتبارها "الحارس الوحيد للحقيقة الإلهية" (ص67) وفجأة تكتشف هيمنة الكفار على مقدراتها، يضاف لذلك الإحباط العميق الناجم عن إخفاق تجارب الإصلاح الواحدة تلو الأخرى، وبعد ذلك يجيء مكون ثالث ضروري للانقضاض وهو الشعور بالقوة والثقة بالنفس وهما العنصران اللذان تكونا من امتلاك الثروة النفطية، وما تبعهما من تشكل عنصر جديد هو الازدراء للغرب الذي يعاني انحطاطا أخلاقيا واضحا. وفي اعتقاد لويس أن الإيديولوجية الإسلامية تتمتع بمزايا عديدة لا تتوفر لغيرها، فهي توفر أساسا للهوية، وقدرة فائقة على التوحيد الجماعي، وصياغة مقبولة للشرعية يمكن نقد الحاضر على أساسها والتخطيط للمستقبل، كما تتميز الحركات الإسلامية بميزة ضخمة أخرى وهي أن ميدان عملها المساجد وهي شبكة اتصالات واسعة ومفتوحة لا تستطيع أكثر الحكومات ديكتاتورية إحكام قبضتها عليها.
ويتحفظ لويس على توصيف هذه الحركات بالأصولية المصطلح البروتستنتي الأمريكي الذي استخدم بقصد تمييز بعض الكنائس التي اتسمت بالتحرر الديني ونقد الأناجيل، وهو ما لا ينطبق على هذه الجماعات وأتباعها، وإزاء ذلك يقدم لنا تعريفه للأصوليين "أنهم أولئك الذين يرون متاعب العالم الإسلامي في العصر الحاضر لا ترجع إلى عدم كفاية التحديث بل إلى الإفراط فيه" (ص148) ويستخدم لويس مصطلح التحديث في هذا السياق مرادفا للتغريب، وليس بمعنى التقانة التي لا يمكن أن تثير الاستياء من قبل هؤلاء أو غيرهم. ويبدو لنا أن غاية لويس هي تمديد دائرة الأصولية لتشمل كل من يرفض ويقاوم التغريب إلى جوار المتطرفين.
ويعزو لويس تصاعد المد الأصولي إلى اختفاء الحليف، فقد اعتاد المسلمين في مراحل تاريخية سابقة الاعتماد على شريك قوي في مواجهة الهيمنة الغربية، حين تحالفوا مع الرايخ الألماني ثم الاتحاد السوفيتي، وبعد سقوطه وجدوا أنفسهم في ساحة المواجهة بمفردهم وعليهم الاعتماد على قواهم الذاتية، وهي الحقيقة التي أدركها ابن لادن وأتباعه، وجاء تأسيس تنظيم القاعدة في ذات العام الذي سقط فيه الاتحاد السوفيتي تعبيرا عنها. وللإيهام بالتزامه نهج الموضوعية يناقش لويس شكوى المسلمين من إلصاق صفة الإسلامية بكل العمليات الإرهابية وتساؤلهم لماذا لا يوصف الإرهابيين الأيرلنديين والإرهاب الذي يمارسونه بأنه مسيحي، ويعلق أن الجواب بديهي وهو أنهم لا يصفون أنفسهم بذلك، ولا يجد لويس بدا من الإقرار أن ابن لادن والقاعدة ليسوا ممثلين للإسلام، لكنه يذهب إلى أنهم شبوا في إطار الحضارة الإسلامية ويتوجب النظر إليهم في إطار سياقاتهم الدينية والثقافية الخاصة. وإذا كان ما ذهب إليه لويس صحيحا من أن العلة الأساسية للعنف هي الحضارة الإسلامية فكيف يفسر إحجام سكان بعض الدول الإسلامية كنيجيريا وتركيا وبنجلاديش عن المشاركة في الممارسات الإرهابية، رغم أنها تمثل أضخم حشود إسلامية على مستوى العالم.


دافعية الكراهية والقراءات المغلوطة


يتعرض لويس بالتحليل لموجة الكراهية التي تسود العالم العربي تجاه الولايات المتحدة فيشير إلى أن هناك ثلاثة ادعاءات عربية بشأنها وهي: العلاقات الوطيدة مع إسرائيل، والإمبريالية الأمريكية، ومساندة الأنظمة العربية المستبدة، ونعود للتذكير بأن منهج لويس قائم على الانطلاق من مقدمات صحيحة وصولاً إلى نتائج خاطئة، ولننظر كيف عالج لويس هذه النقاط.
ويبدو لويس متشككا من أن الصراع العربي الإسرائيلي يمثل القضية المركزية للعرب، ويرى أن تضخيم الصراع تم عمدا من قبل الأنظمة العربية التي وجدت فيه متنفسا للقمع الذي تمارسه ضد شعوبها، فمن قبل لم يثر سقوط القدس في يد الصليبيين أي رد فعل سلبي من العرب واستغرق الأمر ما يقرب من قرن حتى حررها صلاح الدين- يلاحظ هنا أنه يقفز عمدا فوق جهاد زنكي ونور الدين محمود- ويضيف أن دعم الاتحاد السوفيتي السابق لإسرائيل لم يؤثر على الصداقة العربية السوفيتية، وإذا كان الأمر كذلك فمن المنطقي ألا يثير تأييد الولايات المتحدة لإسرائيل استياءً عربياً، وليس هذا فحسب بل إن العرب هم من دفع الولايات المتحدة دفعا إلى توثيق عرى علاقتها بإسرائيل حين عقد عبد الناصر صفقة توريد السلاح مع تشيكوسلوفاكيا عام 1955 والتي لم تجد الولايات المتحدة معها بدا من الاعتماد على إسرائيل لتنفيذ سياستها في المنطقة، وبالتالي فالعلاقة الإستراتيجية مع إسرائيل كانت نتيجة وليس سبباً للتغلغل السوفيتي. غير أن هذا التبرير يطرح تساؤلا منطقيا وهو لماذا لم تتأثر تلك العلاقة مع انهيار الاتحاد السوفيتي، و ما دواعي تصعيدها إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية؟
ووفق تلك القراءات المغلوطة لا يجد لويس حرجا في إعلان تأييده للدور الإمبريالي الذي تمارسه الولايات المتحدة منذ أوائل التسعينات في الخليج ثم العراق، ويتساءل لم أحجم المسلمون على إطلاق مسمى الإمبريالية الإسلامية على الإمبراطورية الواسعة التي أسسوها، ولماذا يوصم الوجود الأمريكي في العراق بها، وفي اعتقاده أن الإمبريالية الغربية كانت لها حسنات عدة ويكفي أن البلاد الإسلامية التي عانت من الإمبريالية أصابها حظا من التحديث أكبر من تلك البلدان التي لم تخضع لها، وراح لويس يذكر بمزايا الإمبريالية الغربية وبأنها من شيدت البنى الأساسية والخدمات العامة، وساعدت في دفع التغييرات الاجتماعية قدما " وبالذات إلغاء الرق والحد من تعدد الزوجات" (ص92) وبالتالي فمن المنتظر أن تكون للإمبريالية الأمريكية في العراق حسناتها الديمقراطية هي الأخرى. وبعد هذا المديح للإمبريالية هل نكون بعيدين عن الحقيقة إذا اعتبرنا لويس يستخدم مفارقات التاريخ أداة من أجل تبرير الإمبريالية ؟ وهل كان الراحل إدوارد سعيد بعيدا عنها حينما اتهمه بأنه "منظر ومدافع عن الكولونيالية".
ويتأتى بعد هذا مساندة الولايات المتحدة للأنظمة العربية الاستبدادية، ويعتقد لويس أنه أهم الادعاءات العربية لأنه يمس بشكل مباشر حياة المواطنين العرب الذين يعتقدون أن بقاء الأنظمة العربية الديكتاتورية لم يكن ممكنا لولا المساندة والدعم من جانب الولايات المتحدة التي تمارس نوعا من المعايير المزدوجة حين تتشدد في الالتزام بالديمقراطية والحرية السياسية في كثير من مناطق العالم، وتغض الطرف عن تلك المعايير في تعاملها مع المنطقة العربية. ومن ناحيته لا ينكر لويس معقولية هذا الادعاء ووجاهته لكنه يحرص على تشويهه تماما مدعيا أن بنية المجتمعات الإسلامية هي التي تفرز تلك النوعية الاستبدادية من الحكام، فهي مجتمعات تسمح بانتهاكات الحقوق المدنية والحريات السياسية، فضلا عن الجرائم ضد الإنسانية وكل هذا يعد مألوفا بالنسبة لها، ومن غير المنتظر -كما يعتقد لويس- أن يكون للديمقراطية وجود حقيقي في العالم العربي، نظرا لأن أي انتخابات حرة ستؤدي بالإسلاميين إلى السلطة، والديمقراطية بالنسبة لهؤلاء طريق إلى السلطة " لكنه طريق ذو اتجاه واحد لا رجوع فيه" (ص131) ويخلص من هذا إلى أن المنطقة لن تحكم في المستقبل إلا بحكام مستبدين فاسدين، وبالتالي " ليس من شأن الغرب إصلاحهم، أو حتى تغييرهم بل مجرد ضمان أن يكون هؤلاء المستبدون أصدقاء غير معادين للمصالح الغربية" (ص126).
خلاصة ما يرمي إليه لويس تفريغ محتوى هذه الادعاءات ومحاولة الإيهام بأن العداء للولايات المتحدة لا يستند إلى مبررات منطقية ومعقولة، وإنما هو محض عداء للحضارة الغربية بما تمثله من رؤية للحياة، وعليه فإن الصدام مع الإسلام وأتباعه واقع لا محالة حسبما تنبأ بذلك صامويل هنتجتون.



نشر بموقع ببليوإسلام


الإسلام والعلمانية والحداثة.. رؤية اجتهادية مغايرة


فاطمة حافظ


الكتاب: في العلمانية والدين والديمقراطية.. المفاهيم والسياقات
المؤلف: رفيق عبد السلام
مركز الجزيرة للدراسات: 2008.


مسألة العلمانية واحدة من المسائل الكبرى المطروحة أمام الفكر الإسلامي المعاصر بما تفرضه من تحديات وتساؤلات. وعلى الرغم من كونها خضعت لمقاربات كثيرة فإن غالبية ما سطر في هذا المجال تشوبه آفتا الاختزال والأدلجة، ولعل هذا ما دفع الباحث "رفيق عبد السلام" للإقدام على اختيار هذا الموضوع الهام في أطروحته لنيل درجة الدكتوراة، التي قدمها لجامعة وستمنستر تحت عنوان "الإسلام والعلمانية والحداثة".
وبحسب رفيق، لم يكن الغرض من الدراسة تتبع مواطن الالتقاء ومواضع الافتراق بين الإسلام والعلمانية – كما نحت كثير من الأدبيات - بقدر ما استهدفت إعادة التفكير في المفاهيم النمطية الشائعة وفي مقدمتها مفهوم الإسلام على نحو ما تصوره الأدبيات الغربية، ومفهوم العلمانية واقترانه الحتمي بمفاهيم الحداثة والعقلانية والديمقراطية. فالإشكال الأساسي المطروح الآن هو: هل يمكن أن تشكل ممانعة الإسلام للعلمنة مناسبة لإعادة التفكير في نظريتي العلمانية والحداثة؟ وهل هناك إمكانية للتفكير في الإسلام بعيدا عن المفاهيم والصور النمطية الغربية؟.


معالم قراءة مغايرة


وقد تفردت قراءة رفيق للعلمانية بعدة خصائص يمكن إجمالها على النحو التالي:
قراءة معرفية: لم تشبها شائبة تغليب الأيديولوجي على المعرفي؛ إذ ظلت مشدودة في منطلقاتها وغايتها وأدواتها إلى الأطر المنهجية، ومبتعدة بالقدر ذاته عن التوظيف الأيديولوجي، وهو ما يفسر توقف صاحبها أمام عالم الأفكار وعدم تجاوزه إلى عالم الأشخاص.
قراءة تمحيصية: اختبر صاحبها المقولات والمفاهيم العلمانية الأساسية وبرهن على محدوديتها وضعف مقدرتها التفسيرية.
قراءة تفكيكية: استهدفت نقض البنى المعرفية والتاريخية التي تأسست عليها المقولات العلمانية.
قراءة تفصيلية مدققة: لم تقع في أسر التعميمات المخلة واستخدام التوصيفات الشائعة، وإنما بحثت في اختلاف النماذج التاريخية وتباين التأويلات المتعلقة بها.
هي باختصار قراءة اجتهادية ومغايرة بذل فيها صاحبها جهدا غير منكور ولم يشبها سوى الإطناب في العبارة والتكرار في بعض المواضع.


مقاربة في المفهوم


في مقاربته لمفهوم العلمانية ينطلق رفيق من حقيقة أن المفاهيم "ليست بالأمر المحايد وإنما هي حاملة لرهانات ومصالح كثيرة" (ص 17)، ليقرر وجود حالة التباس دلالي واسعة تقترن باستخدام المفهوم، سببها خضوعه للخطاب الأيديولوجي العلماني بأكثر من خضوعه للتحقيق العلمي الجاد. ولعل هذا ما حدا به للتنبيه إلى صعوبة الاطمئنان إلى وجود تعريف محايد للمفهوم مشتق من الكتابات العلمانية.
وبدوره لم يشأ رفيق أن يتوقف طويلا أمام الدلالات النظرية لمفهوم العلمانية إلى حد أنه لم يقم بوضع تعريف لها، بل لم يرجح أحد تعريفاتها، مبررا ذلك بأن التعريفات تتفاوت بتباين الحقول المعرفية واختلاف زوايا النظر. فالسياسي يعرف العلمانية بأنها فصل الدين عن الدولة، أما عالم الاجتماع فيركز على انعكاسات العلمنة على السلوك الاجتماعي. من جهة أخرى ليس هناك علمانية واحدة وإنما هناك علمانيات متعددة هي نتاج تجارب تاريخية متفاوتة، بحيث يتعذر معها تبني تعريف يجمع شتات هذه العلمانيات. إلا أن هذا التعدد لم يحل دون أن يميز رفيق بين نوعين أساسين منها، وهما:
العلمانية الجوهرية: وهي فلسفة ورؤية للكون ذات نزعة عدمية إلحادية تستهدف انتزاع المقدس من حياة البشر واحتلال المساحات التي كان يشغلها.
والعلمانية الإجرائية: وهي مجرد إجراءات تستهدف تنظيم الشأن العام بعيدا عن دائرة المقدس حفظا له من التوظيف السياسي. وهي بهذا المعنى لا تستهدف الإطاحة بالمقدس والحلول محله وإنما تستهدف تحديد مساحاته وضبط دوائر اشتغاله.


المسار التاريخي للعلمانية


ومن الإطار النظري إلى المسار التاريخي يتتبع رفيق الملابسات التاريخية التي رافقت صعود العلمانية في الغرب، كاشفا عن بعض الحقائق التي يتم التغافل عنها – بوعي أو دون وعي - في الأدبيات العلمانية، ومنها أن العلمانية لم تكن نتاجا عقلانيا هادئا ساقه بعض المفكرين الغربيين بقدر ما كانت حلا عمليا فرضته أجواء الحروب الدينية التي شقت أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والتي انخرطت فيها الكنيسة بقوة؛ ما جعل من العسير عليها أن تنهض بوظيفة الوحدة مجددا بين الأطراف الأوروبية. ومن هنا نشأت الحاجة إلى بروز نظام جديد يجمع الشمل الأوروبي على أساس غير وحدة الدين، وفي ظل هذه الأجواء تخلقت العلمانية لتكون الإطار الناظم الجديد للوحدة الأوروبية.
وبالتزامن مع صعود العلمانية وفي أتون الحرب الدينية الطاحنة تأسس مفهوم "التسامح" على يد بعض المفكرين الغربيين، بغرض معالجة الانقسام الحاصل داخل الكنيسة وبين الطوائف المسيحية المتنازعة. أي أنه صيغ بالأساس بحيث يتعاطى مع مشكلة الانقسام الأوروبي ولم يكن مصمما بحيث يشمل الديانات غير المسيحية. وإلى ذلك يرجع رفيق فشل محاولات العلمانيات الغربية -انطلاقا من مفهوم التسامح -التعاطي مع الإسلام والأقليات المسلمة في أوروبا، كما أخفقت من قبل في حل المشكلة اليهودية.


الدولة والدين في التجربة الغربية


من الحقائق التي يحرص رفيق على التأكيد عليها أن تجربة فرنسا في العلمانية ليست إلا واحدة ضمن تجارب علمانية عديدة في أوروبا، وبالتالي ليس هناك ما يدعو لتبني النموذج الفرنسي العلماني كما يدعو غلاة العلمانيين؛ ذلك أن موقف الدول الغربية من الدين يتراوح بين ثلاثة أوجه:
الأول: خيار مصادمة الدين والاستيلاء عليه بقوة الدولة كما هو حال فرنسا اليعقوبية والدول الشيوعية، وهو أنموذج تسلطي لا تكتفي الدولة خلاله بإضعاف الدين ورده إلى دور العبادة أو المجال الخاص، وإنما تسعى إلى انتزاع جذوره تماما بإزاحته كلية من وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية.
الثاني: خيار الانفصال الوظيفي بين الكنيسة والدولة، والالتزام بحيادية الدولة إزاء الشأن العام، كما هو حال الدول الإسكندنافية. ويشكك رفيق بقوة في التزام الدولة الحياد؛ مستندا إلى أن الدولة القومية الحديثة ذات نزعة تدخلية قوية، ومن الطبيعي أن تسعى للسيطرة على أدوات التعبير الرمزي والديني.
الثالث: خيار الربط الوظيفي بين الكنيسة والدولة كما هو متبع في بريطانيا وإيطاليا واليونان وإلى حد ما الولايات المتحدة الأمريكية، التي فصلت دستوريا ولكنها ربطت واقعيا بين الجانبين. وهذا النموذج يمنح دورا متقدما للكنيسة والدين في إدارة الشأن المدني ويميزه حالة من الوفاق والتناغم بين الدولة والكنيسة حين تسمح الدولة بتواجد الكنيسة في المجتمع المدني على حين تسبغ الكنيسة نوعا من الشرعية على الدولة.
على ضوء التفاوت في النماذج العلمانية يحاول رفيق أن يقرأ واقع حركة العلمنة ذاهبا إلى أن ثمة مسافة تفصل بين النظريات العلمانية وواقع الدين في المجتمعات الغربية التي لم يختف منها الدين كلية، وإنما ظل حاضرا على هيئة تعبيرات مؤسسية كالأسرة التقليدية، أو في مناسبات خاصة كحدث وفاة البابا يوحنا الثاني، الذي كشف عن وجود عدد من الطقوس والتقاليد الكنسية الشعبية كان يظن أنها دفنت إلى غير رجعة.
وعلى هذا يستنتج رفيق أننا إذا شئنا فهما دقيقا لحركة العلمنة فإن هناك عددا من النقاط يجب أن نضعها في الاعتبار وهي:
أولا- ينبغي ألا تقرأ حركة العلمنة من خلال الأدبيات العلمانية التي تشدد على انتصار المادي على الديني وتبشر بعصر ما بعد الدين، إذ لو كانت هذه القراءة صحيحة لاختفت الكنيسة تماما من المشهد الأوروبي.
ثانيا- من التعسف قراءة واقع الدين في الغرب أو في أي بلد آخر من خلال نافذة الدولة أو من جهة ادعاءاتها النظرية ومدوناتها التشريعية، إذ يمكن لدولة ما أن تكون بالغة المفاصلة بين الدين والمتدينين، ويكون المجتمع على غير ذلك، وتركيا مثال واضح في ذلك.
ثالثا- الإيمان الديني ليس متساوقا بالضرورة مع التعبير المؤسسي؛ إذ يمكن للمؤسسة الدينية أن تكون في حالة تراجع وتهميش في حين ترتفع معدلات التدين في الدائرة الاعتقادية الفردية، والعكس صحيح كذلك، إذ يمكن للمؤسسة الدينية أن تكون قوية ومتماسكة ولكن بالتوازي مع ذلك يشهد الدين نوعا من الضعف والتراجع.
ويخلص رفيق من هذا كله إلى أنه من غير الدقيق اعتبار الغرب علمانيا خالصا كما أنه من الخطأ النظر إليه بحسبانه مسيحيا متدينا وإنما يتوجب قراءته من خلال الوجهين معا إذا شئنا أن نفهمه فهما صحيحا.

تحديات العلمنة في العالم الإسلامي


في الجهة المقابلة يحاول رفيق مقاربة المشروع العلماني في العالم الإسلامي الذي يتعرض منذ قرابة ثلاثة عقود لتحديات عديدة جسدتها الثورة الإيرانية 1979 وما تلاها من صعود تيارات الإسلام الجهادي، وفي هذا الصدد يسجل رفيق أن أشد الفئات ممانعة للمشروع العلماني هي أكثر الفئات ثقافة وأفضلها تعليما - وليست الفئات التقليدية - أي أن تهديد المشروع يأتي من قبل القطاعات التي يفترض أن تكون في طليعة قاطرة تبني العلمانية. ولا يفوت رفيق كذلك أن يذكر بأن الأطروحات العلمانية ليست جديدة على العالم الإسلامي، فقد تبنتها شرائح واسعة من المثقفين العرب في مطلع القرن الماضي وعولت عليها كثيرا، لكنها اكتشفت لاحقا في أجواء التوسعات العسكرية الغربية و"النفاق الغربي" خطأ المراهنة على هذا الخيار وضرورة تجديد صلتها بمنابعها الثقافية الأصلية.
أما الملاحظة الأكثر جوهرية التي يسجلها رفيق فهي انفكاك عرى التلازم بين العلمانية والحداثة في مخيلة الفئات الممانعة للمشروع العلماني؛ فهي قد أخذت بنصيب وافر من الحداثة ونهلت من معينها ولكنها في المقابل تجري عمليات مستمرة من المواءمة بين منجزات الحداثة ومقتضيات الحفاظ على الهوية، الأمر الذي يدحض الادعاء العلماني القائل بأن العلمانية والحداثة صنوان لا يفترقان وأنه لا يمكن بلوغ التحديث إلا مع تبني النهج العلماني.


في العلاقة بين الإسلام والعلمانية


على ضوء تلك التراجعات التي أصابت المشروع العلماني في العالم الإسلامي خضعت علاقة الإسلام بالعلمانية لمقاربات عديدة من قبل بعض الباحثين العلمانيين الغربيين ممن حاولوا استشراف مستقبل المد العلماني، والذين ذهب بعضهم إلى القول بأن الإسلام ممانع بالكلية للعلمنة لطبيعة جوهرية كامنة فيه، وفي الجهة المقابلة يراهن البعض الآخر على أن هذه الممانعة مؤقتة؛ إذ ليس بمقدور الإسلام صد موجة العلمنة؛ إذ العلمانية - برأي هؤلاء - هي نهاية التاريخ الذي سيتخلى حتما عن مرجعياته الدينية تماما. أما المقاربة الثالثة فيشدد أنصارها على أن التجربة التاريخية للإسلام عرفت نوعا من العلمانية، وإن كانت طبيعتها تختلف عن نظيرتها الأوروبية، وذلك بالنظر إلى ذلك التمايز الوظيفي الذي كان قائما بين الدولة الإسلامية التي استأثرت بالمجال السياسي وبين مؤسسة الفقهاء التي بسطت نفوذها على الفضاءين الديني والاجتماعي.
هذه المقاربات - كما يراها رفيق - تشترك في "أنها لا تقرأ الإسلام من خلال مفاهيمه الأساسية ومقولاته الداخلية، بل غالبا ما تخضعه لنماذج نظرية جاهزة ومفاهيم نمطية ضاربة الجذور وممتدة العروق في الموروث المسيحي والاستشراقي" (ص 92)، وأنها لا ترى فيه إلا مفهوما جامدا وكتلة منغلقة على ذاتها تقف على طرف نقيض مع العلمانية، وليس هذا صحيحا "فالإسلام دين متحرك في الفهم وفي خطوط الممارسة وكذلك الأمر بالنسبة للعلمانية والحداثة. ولذلك فليس من المستغرب أن نجد أثرا لبعض المفردات المحسوبة على العلمانية أو الحداثة داخل الإسلام نفسه، وإن لم تتسم باسم العلمانية والحداثة، كما أنه ليس من المستغرب أن نجد لبعض المفردات والعناصر اللصيقة بالإسلام أشباها ونظائر في فضاء العلمانية والحداثة وإن لم تتسم باسمه" (ص 103).
وتأسيسا على ذلك يذهب رفيق إلى أن بعض الآليات السياسية التي تدعي العلمانيات تمثيلها واحتكارها يمكن أن تشتغل ضمن أرضية أخلاقية دينية ربما بصورة أفضل من تأسيسها على أرضية علمانية دهرية بما في ذلك قضايا مثل: الديمقراطية وما شابه.
ويخلص رفيق إلى أن جوهر الخلاف بين العلمانية والإسلام لا يعود إلى ما تنادي به العلمانية من مطالبات اجتماعية وسياسية، أو إلى كون الإسلام يدعو إلى إقامة دولة لا تعرف الفصل بين الديني والسياسي بقدر ما يتعلق بالأسس الفلسفية التي يقوم عليها كل منهما، فبينما تستند العلمانية إلى تصور دهري غير متجاوز لا يؤمن بالغيبيات، وترى في المادي والدنيوي مصدرا للقيمة والمعنى؛ فإن الإسلام والديانات التوحيدية عامة تشدد على فكرة الخلق والتجاوز باعتبارهما مصدر القيمة والمعنى.
وإذا ما فهمت العلمانية على هذا النحو (المتشدد) فهنا تبدو صعوبة - بل واستحالة - أن يتعايش معها الإسلام وأن يقبلها المسلمون، أما إذا أعيد تعريفها - أو بالأحرى تقليصها - بحيث تشير إلى الشئون الدنيوية والنشاط الإنساني في هذه الحياة الدنيا دون إضافة قيمة معيارية فهذا لن يكون - حسب رأيه - موضع إشكال. وهنا نجد لزاما أن نشير إلى أن هذا الطرح لا يخص "رفيق" وحده وإنما هو طرح بدأ يسود في أوساط بعض المفكرين من ذوي التوجهات الإسلامية وأبرز رموزه المفكر عبد الوهاب المسيري، ويرى هذا التيار إمكانية وجود مساحات التقاء بين الإسلام والعلمانية، أما عن مدى نجاعة هذا الطرح فإن المستقبل هو الكفيل بتقرير ذلك.
نشر بموقع الملتقى الفكري للإبداع

مسابقات الجمال والتمركز حول الجسد

فاطمة حافظ
مع صعود تيار العولمة بدا واضحا أن هناك إفراطا في التركيز على الجسد الذي أصبح محورا للاهتمام من جانبين:
الأول ثقافي: ويجد صداه في تركيز بعض المؤسسات الثقافية على اعتبار الجسد موضوعا للبحث فبدأنا نسمع عن انعقاد مؤتمرات وإصدار كتابات تحت عناوين: الجسد المقهور، الجسد المهمش، العنف الجسدي، فلسفة الجسد وما إلى ذلك من عناوين لا تحمل أي مضمون علمي حقيقي.
والثاني مادي: ويجسده محاولة إعادة تشكيل الجسد من خلال عمليات تجميلية تمهيدا لإبرازه عاريا، وهناك طلب متزايد على الخضوع لتلك العمليات حتى أضحت تجارة رائجة تحقق أرباحا طائلة إلى الدرجة التي دفعت بعض البنوك إلى تقديم قروض مالية تيسيرا على الراغبات في إجرائها والولوج إلى عالم الجمال. وهكذا ادخل الجسد دائرة علاقات السوق وانتزعت قداسته وأضحى سلعة خاضعة للتقييم والفحص والمعاينة من خلال مسابقات الجمال التي لم تعد قاصرة على النساء وإنما طالت الرجال مؤخرا.

إن فكرة اختيار فتاة شابة وتتويجها على عرش الجمال عادة أوروبية موغلة في القدم؛ فالمرأة الجميلة ترمز للقارة الأوربية ذاتها كما ورد في الأساطير الغربية القديمة؛ ومن ثم فإن الاحتفالات باختيار الفتيات كانت تأخذ طابعا قوميا ودينيا واضحا.
وتعود مسابقات الجمال المتعارف عليها حاليا إلى عام 1921 حين نظمت ولاية أتلانتا الأمريكية أول مسابقة من نوعها لاختيار ملكة جمال للولاية، وفي العام التالي تحولت المسابقة إلى مسابقة لاختيار ملكة جمال الولايات المتحدة. وبعد مضي عقود أخذت الفكرة طريقها نحو العالمية على يد البريطاني إريك مورلي الذي نظم مسابقة (miss world) للمرة الأولى عام 1951، وفي العام التالي مباشرة تم تنظيم مسابقة ملكة جمال الكون (miss universe) واستمر الأمر في التوسع حتى بلغ عدد المسابقات العالمية أربع مسابقات، هذا بخلاف المسابقات المحلية التي تنظمها كل دولة على حدة ويتم من خلالها تصعيد الفتيات المشاركات في المسابقات العالمية.


المسابقات في العالم الإسلامي

عرفت هذه المسابقات سبيلها إلى العالم العربي أواخر الثمانينات مع بدايات المد العولمي؛ ففي عام 1987 نظمت إحدى الشركات أول مسابقة من نوعها في مصر وذلك على نطاق ضيق وشبه سري واستمر الحال على هذا النحو إلى أن تمت النقلة النوعية لهذه المسابقة عام 1998 بحصولها على توكيل منظمة ملكة جمال الكون وبموجب ذلك أضحت الفتاة الفائزة تشارك في المسابقة العالمية التي تعدها المنظمة.
رافق هذا تبدل مماثل على صعيد وسائل المسابقة التي تخلت عن السرية وحظيت بتركيز إعلامي مفرط، ومن المعروف أن عدد المتقدمات قد ارتفع من بضع عشرات مع بدء انطلاقها إلى أن بلغ 850 فتاة عام 2005، وقفز العدد فجأة إلى ما يربو على ألفي فتاة في الدورة الأخيرة 2007. وتلك الزيادة المضطردة يمكن تفسيرها على ضوء أن بعض الأسر أصبحت لا ترى غضاضة في مشاركة بناتها في هذه المسابقات إذا كانت ستكفل لهن أن يصبحن مقدمات برامج أو ممثلات معروفات كما حدث فعليا مع بعض القائزات.
ولعل هذا ما ضاعف من حدة الانتقادات الموجهة إليها والتي وصل بعضها إلى البرلمان المصري (مجلس الشعب) عدة مرات. وبعد أن كان الحديث يجري همسا ودون قرائن عن المخالفات الأخلاقية للمسابقة أصبح الآن جهرا مع تقدم عدد من المتسابقات في العام الماضي ببلاغ للنائب العام يتحدثن فيه عن مخالفات شرعية وفضائح أخلاقية شابت فعالياتها، ومن الواضح أن ذلك لم يفت في عضد اللجنة المنظمة للمسابقة التي أعلنت عن أنها تنوي الاحتفال بمضي عشر سنوات على هذه المسابقة خلال مسابقة العام الحالي 2008.
ويبدو أن هناك توجها نحو تعميم هذه المسابقات ونشرها؛ فبعد أن كانت مصر ولبنان وحدهما من ينظمان هذه المسابقة عربيا شرعت المغرب منذ عام 1999 في تنظيم مسابقة مماثلة. كما جرت محاولة أردنية عام 2002 لإجراء أول مسابقة أردنية غير أن الاعتراضات الشعبية وضعف الإقبال على المسابقة (شاركت 6 متسابقات فقط) جعلا من تكرار التجربة أمرا مستحيلا.
وعلى امتداد العالم الإسلامي لم يكن إقرار هذه المسابقات هيناً ففي عام 2002 شهدت نيجيريا مواجهات دامية أسفرت عن سقوط مائتي شخص احتجاجا على إقامة مسابقة ملكة جمال العالم في دولة ذات أغلبية مسلمة وهو الأمر الذي اضطر اللجنة المنظمة إلى نقل المسابقة إلى القارة الأوروبية في مسعى لتهدئة الغضب الإسلامي.


تسييس مسابقات الجمال

انطلاقا من مطلع القرن الميلادي الجديد لوحظ أن هناك توجها لتوظيف مسابقات الجمال لخدمة أهداف سياسية؛ فمن جهة لوحظ الحرص على إقامة المسابقات الكبرى في بلدان مازالت تقاوم تيارات العولمة (نيجيريا، الصين) كما أضحى الفوز فيها محكوما بدواعي السياسة، وعلى سبيل المثال اعتبر فوز امرأة صينية بلقب ملكة العالم عام 2007 بمثابة حفز للصين على الانخراط في سلك العولمة والتغريب الكامل.
ومن جهة ثانية لوحظ انتشار هذه المسابقات في البلدان الواقعة تحت الاحتلال. ففي عام 2003 شاركت امرأة أفغانية مقيمة في الولايات المتحدة في مسابقة ملكة جمال الأرض مثيرة بذلك انتقادات شعبية حادة وبخاصة بعد ظهورها بلباس البحر على شاشات التلفزة العالمية، أما في العراق فقد شجعت سلطات الاحتلال على تنظيم مسابقة جرى التكتم بشأنها عام 2006، وما أن أشيع النبأ حتى تلقت الفائزة تهديدات بالقتل فاضطرت إلى التنازل عن اللقب والفرار خارج العراق، لذا جرى الاتصال بالوصيفتين ولكنهما خشيتا ذات المصير وأخيرا تم منح اللقب إلى المرشحة الرابعة التي شاركت في مسابقة ملكة جمال الكون.
ويبدو أن هذه المسابقة وجدت في العراق لتبقى؛ فرغم ما أصابها من فشل فقد أعيد تنظيمها في العام التالي تحت دعاوى نشر ثقافة السلام في مواجهة ثقافة الحرب والتدمير، دون أن يوضح مروجوها ماهية العلاقة بين الفتيات الجميلات وبين السلام وكيف يمكن أن تؤدي إلى إحلال السلام وإنهاء الحرب، ويبدو السؤال الأكثر جوهرية لماذا هذا الحث من سلطات الاحتلال على تنظيم هذه المسابقات وما هي النتائج التي تأمل أن تصل إليها؟.

الموقف الفقهي

في تعليق لشيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق رحمه الله على تنظيم أول مسابقة لملكات الجمال في مصر ذكر ما نصه: يا هول هذا الخبر وما حواه من استعراض لأجساد فتياتنا من سن 15-25 سنة؛ هل هذا عودة إلى النخاسة والرقيق الأبيض أوقفوا هذه المهازل إننا ندعو جميع المسئولين بالتدخل لوقف مثل هذه المهرجانات الفاسدة المشبوهة والله يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم. فواجب على أولي الأمر تجنيب بلاد المسلمين أسباب سخط الله تبارك وتعالى؛ والبعد عن كل ما يودي بشبابها وفتياتها إلى الهاوية والعياذ بالله.
أما الشيخ نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية السابق فقد أصدر فتوى بشأنها جاء فيها أن تنظيم هذه المسابقات "حرام.. حرام.. وغير جائز شرعًا بأي حال" واستند في ذلك إلى أنها من المعلوم من الدين بالضرورة وأن كل ما يؤدي إلى حرام فهو حرام وأنها مما لا تقره أخلاق الفطرة؛ وخروج بها عما جبلت عليه من العفاف والستر..

الأبعاد الفلسفية لمسابقات الجمال

يحمل الرفض الإسلامي في طياته ما هو أكثر من النظر لهذه المسابقات على اعتبار أنها تشيع العري والابتذال؛ فلا يمكن أن نعزو الفتاوى القطعية في تحريم هذه المسابقات إلى الجانب الفقهي فحسب رغم جلاله وأهميته ولكن هذه الفتاوى تعكس فهما ووعيا بأن هذه المسابقات تلخص رؤية مادية للإنسان: وجوهرها اعتبار الجسد معيارا للتفاضل بين البشر وهو ما يتنافى مع التصور الإسلامي الذي يرجع التفاضل إلى التقوى أي ما اكتسبه الإنسان بيده وعمله، وهنا يمكن أن نتوقف أمام بعض العناصر التي تستجلي طبيعة هذه المسابقات:
فمن جهة تتمركز هذه المسابقات بشكل أساسي حول الجسد الذي يعني المادة التي هي مقابل الروح ومنهما سويا يتشكل الجوهر الإنساني -وفقا للتصور الإسلامي- وتمركز هذه المسابقات حول الجسد واعتباره معيارا أوحد في التقييم الإنساني يعني أن الإنسان يتشكل أساسا من المادة وأنه لا أثر للروح في التكوين الإنساني، وحتى لو افترضنا جدلا وجود بصيص من الروح فإنها تكون في حالة تابعة للجسد، وليس العكس.
من جهة ثانية يرمز الجسد إلى المتعة ومن ثم يصبح التركيز على الجسد في جوهره تركيز على المتع الحسية ويصبح إشباعها هو غاية الوجود الإنساني ومنتهاه.
ومن جهة ثالثة وأخيرة هناك علاقة لا انفصام لها بين هذه المسابقات وبين الشركات الرأسمالية الكبرى التي تتخذ من أجساد الفتيات المشاركات أداة أساسية للترويج لمنتجاتها الاستهلاكية في تجسيد عملي لمبدأ تعظيم الربح -أحد المبادئ الكبرى التي تستند إليها الليبرالية الغربية-.
وبتدقيق النظر نجد أن (المادة والمتعة والربحية) يختزلون ثلاثتهم التصور الغربي في نظرته للوجود وللطبيعة الإنسانية؛ فكأن هذه المسابقات تستبطن رؤية كامنة وفلسفة وبالتالي لا يمكن النظر إليها بوصفها مسابقات ترفيهية غايتها الاحتفاء بالجمال الذي اختزل - وابتذل أيضا- في وجه جميل وجسد ممشوق دون أي اعتبار لأبعاد روحية أو أخلاقية داخلية.
إنه الجمال كما عرفته أسواق النخاسة والرقيق الأبيض فيما مضى وأحيته الحضارة الغربية مجددا.
نشر بمجلة الوعي الإسلامي، العدد 519 (نوفمبر، 2008).

الحركة النسائية العربية: النشأة والتطور والمعوقات

فاطمة حافظ
حين تذكر الحركة النسائية ترد إلى الأذهان مفاهيم من قبيل تحرير المرأة، ومساواتها بالرجل، والتغريب وهذه الاستدعاءات الذهنية تنم عن قصور في إدراك ثنائية الحركة وأنها تشكلت منذ نشأتها من تيارين متباينين أحدهما لا يرى بأسا في محاكاة الغرب وتبني مرجعياته، والآخر ذو توجه إسلامي يدعو لإعمال العقل والاجتهاد في قضايا المرأة من داخل المرجعية الإسلامية وليس من خارجها. ونسعى هنا إلى بيان تلك الطبيعة الثنائية من خلال استعراض المراحل الأساسية في تاريخ الحركة، والتشكيلات التي تعبر عنها، وأهم المعوقات التي تعترضها.
وقبيل أن نتعرض لذلك ينبغي أن نشير أننا نستخدم صيغة "نسوي" للدلالة على التيار العلماني، على حين نميل إلى استخدام صيغة "نسائي" للإشارة إلى التيار الإسلامي، وذلك انطلاقا من أن مصطلح "نسوية feminist" يرتبط ببعض الدلالات والسمات المميزة التي لا تنطبق على التيار الإسلامي.
مراحل تطور الحركة النسائية
تُعرف الحركة النسائية بأنها حركة اجتماعية تنشأ خارج إطار مؤسسة الدولة وتستهدف إحداث تغيير في واقع النساء. ووفقا لهذا التعريف يمكن أن نميز بين عدة مراحل أساسية في تاريخ الحركة لكل منها سماته ومطالبه الخاصة، أخذا بعين الاعتبار أنه ليس هناك تاريخ يحدد بدقة بداية كل مرحلة ونهايتها وإنما هي تتداخل فيما بينها ، كما أن هذه المراحل قد لا تتواجد في كل البلدان العربية على هذا النحو، و هذه المراحل تقسم المراحل على النحو التالي:
المرحلة الأولى: مرحلة النهضة وتمتد من أوائل القرن العشرين وحتى ثلاثينياته تقريبا، وفيها تم التركيز على حزمة من المطالب الاجتماعية كحق النساء في التعلم والعمل، ونوقشت بعض القضايا ذات الارتباط، مثل: الحجاب، والضوابط التي يمكن أن تحكم خروج المرأة ، وطبيعة الدوائر التي يمكن أن تشتغل فيها وما إلى ذلك من القضايا، وقد انقسم الفاعلون الرئيسيون في هذه المرحلة إلى تيارين أحدهما يميل إلى محاكاة الغرب واقتباس تشريعاته ونظمه ورؤاه بشأن المرأة وتيار آخر يدعو إلى النهل من معين الشريعة الإسلامية وإعمال النظر والاجتهاد فيما استجد من تطورات.
المرحلة الثانية: وتشغل حقبتي الأربعينات والخمسينيات وفيها ترسخ حقي النساء في التعليم والعمل ولم يعودا مطروحين للنقاش، وقد تجاوز الخطاب النسوي في هذه المرحلة مطالبه الاجتماعية إلى الحقوق السياسية حيث انخرطت النساء في حركات التحرر الوطنية آنذاك في مصر وفلسطين والمغرب ومن ثم تعالت الأصوات منادية بحق النساء في الاقتراع والترشح لعضوية المجالس التمثيلية (البرلمانات) وهي دعوات تبنتها قيادات نسوية تحسب على الأحزاب الليبرالية أو الماركسية القائمة على حين أحجمت الإسلاميات عن المناداة بمثل هذه المطالب رغم انخراطهن بقوة في حركات مقاومة الاحتلال.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة صعود الدولة القومية وفيها امتلكت الدولة ناصية العمل النسائي وأخضعت كل التنظيمات النسائية تحت سلطتها، وقد أقدمت على تقنين أوضاع النساء عبر إصدارها قوانين العمل وقوانين الأسرة. وبصفة عامة شهدت هذه المرحلة تراجعا في المطالب النسوية على خلفية احتداد الصراع مع الدولة الصهيونية والذي غطى على كثير من المشكلات القائمة آنذاك.
المرحلة الرابعة: مرحلة انسحاب الدولة وبروز سلطة العولمة ويؤرخ لها منذ الثمانيات ولا تزال ممتدة إلى الآن، وفي مستهلها شهدت البلاد العربية قاطبة صحوة إسلامية كرد فعل على عملية التحديث على النسق الغربي التي انتهجتها الدولة. وقد أفرزت الصحوة بدورها تيارا نسائيا إسلاميا تشكل من نساء الطبقة الوسطى وقد عبر هذا التيار عن ذاته في شكل عودة موسعة لارتداء الحجاب، وتأسيس جمعيات نسائية على أسس ومرجعيات إسلامية، وانخراط في التيارات والأحزاب الإسلامية القائمة ومشاركة النساء في الترشح على قوائمها الانتخابية واحتلالهن مراكز متقدمة في هياكلها التنظيمية. وفي الجهة المقابلة برز تيار نسوي نخبوي استقى أطروحاته وبرامجه من جهات عولمية واستفاد كثيرا من الاهتمام العالمي بقضايا المرأة وهي الاستفادة التي تجلت في احتكاره تمثيل النساء في المؤتمرات والمنتديات الدولية المعنية بالمرأة وفي الحصول على تمويل مالي ضخم يدعم التنظيمات النسائية التي أنشأها.
التيارات والأيديولوجيا
وفقا لهذا يمكن أن نصنف تيارات الحركة النسوية بحسب نوعية مساهمتها وكيفية معالجتها لقضايا المرأة إلى الأنماط التالية:
التيار النسائي الإسلامي: وتعبر عنه الجمعيات النسائية الإسلامية وهي تقدم خدماتها إلى نساء الطبقات الدنيا، ولذا فهي توصف بأنها جمعيات خيرية إلا أنها لا تتقيد في برامج عملها الصفة، وهي تتخذ من الدين إطارا مرجعيا لها، وبرامج عملها تراعي الأنساق الدينية والثقافية ولا تستعديها؛ ولذلك تقف موقفا سلبيا من دعاوى عولمة قضايا المرأة القادمة من الخارج، وتقدم نفسها باعتبارها بديلاً للنسوية الغربية لا يشكل تهديدا للهويتين الدينية أو الثقافية. وقد استطاعت هذه الجمعيات بفعل تمسكها بالثوابت الدينية وتبنيها خطابا غير طبقي يؤكد على الفاعلية النسائية استقطاب الأجيال الجديدة من المثقفات الجامعيات المنتميات للطبقة الوسطى، ممن وجدن في الانتماء للإسلام صيغة مثلى للتعامل مع الحداثة دون تعريض الميراث الديني والثقافي للخطر. وقد حرم انضمام الأجيال الجديدة لهذه الجمعيات المنظمات النسوية الحقوقية من رافد مهم من الروافد البشرية اللازمة لتجديد دمائها وتنفيذ برامجها.
التيار العلماني النسوي برافديه الليبرالي والماركسي: وتجسده الجمعيات النسوية الحقوقية التي تأسست بفعل التوسع المطرد في إتاحة فرص التعليم والعمل أمام المرأة، وإطارها يتسع ليشمل الجمعيات الحقوقية التقليدية وكذلك الأنماط الحديثة من الجمعيات كجمعيات سيدات الأعمال وجمعيات مكافحة العنف ضد المرأة، وهي تتخذ من الإطار الحقوقي الغربي مرجعًا لها، وتصطبغ بصبغة نخبوية واضحة؛ إذ تنحصر عضويتها في سيدات الطبقة العليا والنخب الفكرية، وبفعل نخبويتها أقامت هذه الجمعيات جسوراً من التواصل مع المنظمات النسوية الدولية، واحتكرت تمثيل النساء في المؤتمرات والمنتديات الدولية، وقد انعكس هذا على خطابها الذي أخذ بالمرجعية الغربية وتبنى معالجاته للقضية النسائية
التيار النسوي الحكومي: وتجسده الاتحادات القومية للمرأة وهي تجمعات نسوية نشأت مؤخراً تحت رعاية الدولة، وجاء إنشاؤها تعبيرا عن رغبة الدولة في امتلاك منابر التعبير عن قضايا المرأة، خصوصا في المنتديات العالمية، وكذلك بسط سيطرتها على المنظمات النسوية الحقوقية التي أجبرت في بعض الدول على الانضمام لهذه الاتحادات. وهي تتبنى المنظور الحقوقي تجاه قضايا المرأة إلا أنها تظل محكومة بألا يتجاوز طرحها السقف الرسمي في تعامله مع هذه القضايا.
المعوقات والتحديات
إن نظرة تقييمية للحركة بشقيها الإسلامي والعلماني تفيد بأنه رغم مرور قرن ونيف على نشوئها لا تزال تعاني بعض المشكلات التي تكاد تكون مزمنة لعل أهمها عدم تخلصها من الطابع الفئوي الذي يتجاوز المطالب النسائية إلى المطالب والحقوق العامة. كما تعاني الحركة من نخبوية واضحة إذ لم تستطع الوصول إلى الشرائح الدنيا إلا في حالات محدودة للغاية، أما خطابها فلم يبرح مناشدة مؤسسة الدولة أو بعض القوى الاجتماعية التدخل لرفع الغبن عن المرأة، وبعبارة أخرى يعاني الخطاب حالة عجز كلي تتمثل في عدم مبادرته لطرح حلول لمشكلات النساء وعدم امتلاكه أدوات فعلية لتغيير الواقع النسائي.
أما عن التحديات - ونقتصر هنا على ما يواجهه التيار الإسلامي- فيأتي على رأسها محاولة تأصيل طرح نسائي إسلامي عصري، وللحق فإننا نلحظ أن مجمل الأطروحات الإسلامية هي ردود أفعال على ما يطرحه التيار العلماني موسومة بطابع الانفعال، ويبدو أنه بفعل محاولة التصدي للأطروحات العلمانية انصرف التيار عن مهمته الأساسية المتمثلة في بلورة طرح إسلامي أصيل ترتب أولوياته وموضوعاته وفقا للاحتياجات النسائية الفعلية ويلامس قضايا عموم النساء، وهذا الطرح ينبغي عليه أن يدرس تجارب الفاعلية النسائية في التاريخ الإسلامي، فيبحث في تجربة الوقف وظاهرة المحدثات والفقيهات ودور النساء في تحصين الأمة إبان الهجمات الشرسة التي واجهتها ومحاولة تفعيل هذه الظواهر مجددا في حياتنا. وبهذه الكيفية فقط يكون طرحا إسلاميا مقبولا وليس انجرارا لأجندات قادمة من الخارج.
مقال نشر بموقع المصريون