السبت، 10 يناير 2009

اسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة


محمود درويش

تحيط خاصرتها بالألغام..وتنفجر.. لا هو موت، ولا هو انتحار، إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة.
منذ أربع سنوات ولحم غزة يتطاير شظايا قذائف، لا هو سحر، ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غزة في الدفاع عن بقائها، وفي استنزاف العدو، ومنذ أربع سنوات والعدو مبتهج بأحلامه.. مفتون بمغازلة الزمن.. إلا في غزة؛ لأن غزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء؛ لأن غزة جزيرة كلما انفجرت وهي لا تكف عن الانفجار، خدشت وجه العدو، وكسرت أحلامه وصدته عن الرضا بالزمن؛ لأن الزمن في غزة شيء آخر؛ لأن إنه الزمن في غزة ليس عنصرًا محايدًا إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الانفجار، والارتطام بالحقيقة.الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنه يجعلهم رجالاً في أول لقاء مع العدو، ليس الزمن في غزة استرخاء، ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة.
وغزة أدمنت معرفة هذه القيمة النبيلة القاسية، لم تتعلمها من الكتب، ولا من الدورات الدراسية العاجلة، ولا من أبواق الدعاية عالية الصوت، ولا من الأناشيد، لقد تعلمتها بالتجربة وحدها، وبالعمل الذي لا يكون إلا من أجل الإعلان والصورة، إن غزة لا تباهي بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها، إنها تقدم لحمها المر وتتصرف بإرادتها وتكسب دمها، وغزة لا تتقن الخطابة.
ليس لغزة حنجرة.. مسام جلدها هي التي تتكلم عرقًا ودمًا وحرائق.
من هنا يكرهها العدو حتى القتل، ويخالفها حتى الجريمة، ويسعى إلى إغراقها في البحر، أو في الصحراء، أو في الدم.من هنا يحبها أقاربها وأصدقاؤها على استحياء، يصل إلى الغيرة والخوف أحيانًا؛ لأن غزة هي الدرس الوحشي والنموذج المشرق للأعداء والأصدقاء على السواء، ليست غزة أجمل المدن، ليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية، وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض، وليست غزة أغنى المدن، وليست أرقى المدن، وليست أكبر المدن، ولكنها تعادل تاريخ أمة؛ لأنها أشد قبحًا في عيون الأعداء، وفقرًا وبؤسًا وشراسة؛ لأنها أشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته؛ لأنها كابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة، وشيوخ بلا شيخوخة؛ ونساء بلا رغبات؛ لأنها كذلك، فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب.
نظلمها حين نبحث عن أشعارها فلا نشوهن جمال غزة، أجمل ما فيها إنها خالية من الشعر، في وقت حاولنا أن نننتصر فيه على العدو بالقصائد، فصدقنا أنفسنا وابتهجنا حين رأينا العدو يتركنا نغني، وتركناه ينتصر ثم جففنا القصائد عن شفاهنا، فرأينا العدو، وقد أتم بناء المدن والحصون والشوارع، ونظلم غزة حين نحولها إلى أسطورة؛ لأننا سنكرهها حين نكتشف أنها ليست أكثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم، وحين نتساءل ما الذي جعلها أسطورة.
ليست لغزة خيول، ولا طائرات، ولا عصى سحرية، ولا مكاتب في العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا، ومن غزاتها في وقت واحد، وحين نلتقي بها ـ ذات حلم ـ ربما لن تعرفنا؛ لأن غزة من مواليد النار، ونحن من مواليد الانتظار، والبكاء على الديار، صحيح أن لغزة ظروفًا خاصة، وتقاليد ثورية خاصة، ولكن سرها ليس لغزًا، مقاومتها شعبية متلاحمة، تعرف ماذا تريد "تريد طرد العدو من ثيابها".لم تقبل وصاية أحد، ولم تعلق مصيرها على توقيع أحد، أو بصمة أحد، ولا يهمها كثيرًا أن نعرف اسمها وصورتها وفصاحتها، لم تصدق أنها مادة إعلامية، لم تتأهب لعدسات التصوير ولم تضع معجون الابتسام على وجهها.
قد ينتصر الأعداء على غزة، وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة، قد يقطعون كل أشجارها، قد يكسرون عظامها.. قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها، وقد يرمون في البحر أو الرمل أو الدم، ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم وستستمر في الانفجار.
لا هو موت، ولا هو انتحار، ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة.

ليست هناك تعليقات: