السبت، 10 يناير 2009

القهوة..شراب يتحدى العولمة



القهوة مشروب أصيل رائحته الزكية لا تشبه أي رائحة أخرى ومذاقها متميز إلى الدرجة التي يصعب أن نتصور أن يخلط إنسان بينها وبين أي مشروب آخر، وليس هذا وحده ما يجعلها متفردة بين المشروبات وإنما طقوسها الخاصة في الإعداد بشكل هادئ وبطئ وفي التناول على مهل يضفي عليها سحرا ضافيا، إذ لا يمكن أن يحتسي إنسان فنجان من القهوة وهو غاديا رائحا وإنما لابد له من الجلوس وكأنما هو يحمله على السكون الحركي عنوة وعلى التوقف للتأمل بضع دقائق.

للقهوة عاشقين كثر، وعشقى لها ليس له حدود فهي منذ أكثر من عقد من الزمان تُشكل جزءا لا يتجزأ من طقسي الصباحي، ولا أدري متى نشأت تلك العلاقة بيني وبين القهوة لكني أعلم أنها علاقة وجدت لتبقى فهو يبعث فيّ إيحاء بالحيوية ويثير بداخلي بواعث التفكير الهادئ .

ارتبطت القهوة بالشرق وتاريخه الإسلامي في عصوره الزاهرة وباتت رمزا من رموزه الثقافية الدالة عليه، ليست هذه قناعتي الشخصية وإنما هي أطروحة ساقها كتاب الإسلام في بريطانيا صدر عن المشروع القومي للترجمة وهو يتناول المد الثقافي الإسلامي في أوروبا العصر الوسطى، حيث أوضح أن الكنيسة الكاثوليكية قد انزعجت من انتشار القهوة -بين الرجال - الأوروبيين وأنها حذرتهم من غضب الرب عليهم في حال استمرارهم في احتسائها في ظل نفور من الزوجات لهذا المشروب الشرقي وتفضيلهن الخمر عليها. ويخيل إليّ أن الكنيسة قد اعتبرت أن انتشار القهوة إدخالا لعنصر ورمز من رموز الثقافة الإسلامية يشكل تهديدا للهوية المسيحية الغربية؛ إذ المشروبات والأطعمة والملابس ليست بمعزل عن التأثيرات الثقافية الخاصة بالشعوب والمجتمعات.

في الجهة المقابلة تقفز إلى ذاكرتي ما ذهب إليه توماس في كتابه لاكزس والزيتونة من أنه ليس هناك بلدان متجاوران قد افتتحا سلسلة مطاعم ماكدونالدز الأمريكية خاضا حربا ضد بعضهما البعض حتى وإن كان بينهما إرث طويل من العداوة. وهذا الكلام على درجة من الوضوح الكافي لتبين هذه المطاعم لا تقدم طعاما مجردا وإنما تقدم معه قيما معينة وسلوكيات تطمس الموروثات الثقافية للشعوب، وتغرس قيما كونية بديلة محلها.


انظر إلى المكتب أمامي وأري فنجان القهوة وأهتف عشتِ دوما وأبدا عصية على العولمة.


أميرة القهوة

اسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة


محمود درويش

تحيط خاصرتها بالألغام..وتنفجر.. لا هو موت، ولا هو انتحار، إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة.
منذ أربع سنوات ولحم غزة يتطاير شظايا قذائف، لا هو سحر، ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غزة في الدفاع عن بقائها، وفي استنزاف العدو، ومنذ أربع سنوات والعدو مبتهج بأحلامه.. مفتون بمغازلة الزمن.. إلا في غزة؛ لأن غزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء؛ لأن غزة جزيرة كلما انفجرت وهي لا تكف عن الانفجار، خدشت وجه العدو، وكسرت أحلامه وصدته عن الرضا بالزمن؛ لأن الزمن في غزة شيء آخر؛ لأن إنه الزمن في غزة ليس عنصرًا محايدًا إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الانفجار، والارتطام بالحقيقة.الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنه يجعلهم رجالاً في أول لقاء مع العدو، ليس الزمن في غزة استرخاء، ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة.
وغزة أدمنت معرفة هذه القيمة النبيلة القاسية، لم تتعلمها من الكتب، ولا من الدورات الدراسية العاجلة، ولا من أبواق الدعاية عالية الصوت، ولا من الأناشيد، لقد تعلمتها بالتجربة وحدها، وبالعمل الذي لا يكون إلا من أجل الإعلان والصورة، إن غزة لا تباهي بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها، إنها تقدم لحمها المر وتتصرف بإرادتها وتكسب دمها، وغزة لا تتقن الخطابة.
ليس لغزة حنجرة.. مسام جلدها هي التي تتكلم عرقًا ودمًا وحرائق.
من هنا يكرهها العدو حتى القتل، ويخالفها حتى الجريمة، ويسعى إلى إغراقها في البحر، أو في الصحراء، أو في الدم.من هنا يحبها أقاربها وأصدقاؤها على استحياء، يصل إلى الغيرة والخوف أحيانًا؛ لأن غزة هي الدرس الوحشي والنموذج المشرق للأعداء والأصدقاء على السواء، ليست غزة أجمل المدن، ليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية، وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض، وليست غزة أغنى المدن، وليست أرقى المدن، وليست أكبر المدن، ولكنها تعادل تاريخ أمة؛ لأنها أشد قبحًا في عيون الأعداء، وفقرًا وبؤسًا وشراسة؛ لأنها أشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته؛ لأنها كابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة، وشيوخ بلا شيخوخة؛ ونساء بلا رغبات؛ لأنها كذلك، فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب.
نظلمها حين نبحث عن أشعارها فلا نشوهن جمال غزة، أجمل ما فيها إنها خالية من الشعر، في وقت حاولنا أن نننتصر فيه على العدو بالقصائد، فصدقنا أنفسنا وابتهجنا حين رأينا العدو يتركنا نغني، وتركناه ينتصر ثم جففنا القصائد عن شفاهنا، فرأينا العدو، وقد أتم بناء المدن والحصون والشوارع، ونظلم غزة حين نحولها إلى أسطورة؛ لأننا سنكرهها حين نكتشف أنها ليست أكثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم، وحين نتساءل ما الذي جعلها أسطورة.
ليست لغزة خيول، ولا طائرات، ولا عصى سحرية، ولا مكاتب في العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا، ومن غزاتها في وقت واحد، وحين نلتقي بها ـ ذات حلم ـ ربما لن تعرفنا؛ لأن غزة من مواليد النار، ونحن من مواليد الانتظار، والبكاء على الديار، صحيح أن لغزة ظروفًا خاصة، وتقاليد ثورية خاصة، ولكن سرها ليس لغزًا، مقاومتها شعبية متلاحمة، تعرف ماذا تريد "تريد طرد العدو من ثيابها".لم تقبل وصاية أحد، ولم تعلق مصيرها على توقيع أحد، أو بصمة أحد، ولا يهمها كثيرًا أن نعرف اسمها وصورتها وفصاحتها، لم تصدق أنها مادة إعلامية، لم تتأهب لعدسات التصوير ولم تضع معجون الابتسام على وجهها.
قد ينتصر الأعداء على غزة، وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة، قد يقطعون كل أشجارها، قد يكسرون عظامها.. قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها، وقد يرمون في البحر أو الرمل أو الدم، ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم وستستمر في الانفجار.
لا هو موت، ولا هو انتحار، ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة.

السبت، 3 يناير 2009

أنت منذ الآن غيرك


محمود درويش
هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى ‏دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟ ‏
وهل كان ‏علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟ ‏كم ‏كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء! ‏
أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على ‏غيرك! ‏
أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا - تلك ‏هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع! ‏
أيها الماضي! لا تغيِّرنا... كلما ‏ابتعدنا عنك!
‏أيها المستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟وماذا تريدون مني؟ ‏فنحن أيضاً لا نعرف.
‏أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري ‏سبيلٍ ثقلاءِ الظل! ‏
الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث.
ما نخترع لا ما ‏نتذكر.
الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة!
‏تَقَنَّع وتَشَجَّع، وقتل أمَّه.. لأنها هي ما تيسَّر له من الطرائد.. ولأنَّ ‏جنديَّةً أوقفته وكشفتْ له عن نهديها قائلة: هل لأمِّك، مثلهما؟
‏لولا ‏الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم ‏النبي الجديد!
‏ولولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ‏ولكل صحابيّ ميليشيا!
‏أعجبنا حزيران في ذكراه الأربعين: إن لم نجد مَنْ ‏يهزمنا ثانيةً هزمنا أنفسنا بأيدينا لئلا ننسى! ‏
مهما نظرتَ في عينيّ.. فلن ‏تجد نظرتي هناك. خَطَفَتْها فضيحة!
‏قلبي ليس لي... ولا لأحد. لقد استقلَّ ‏عني، دون أن يصبح حجراً. ‏
هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته - أخيه: ‏الله أكبر ‏أنه كافر إذ يرى الله على صورته هو: أصغرَ من كائنٍ بشريٍّ سويِّ ‏التكوين؟ ‏
أخفى السجينُ، الطامحُ إلى وراثة السجن، ابتسامةَ النصر عن ‏الكاميرا. لكنه لم يفلح في كبح السعادة السائلة من عينيه.‏رُبَّما لأن النصّ ‏المتعجِّل كان أَقوى من المُمثِّل.
‏ما حاجتنا للنرجس، ما دمنا ‏فلسطينيين. ‏
وما دمنا لا نعرف الفرق بين الجامع والجامعة، لأنهما من جذر ‏لغوي واحد، فما حاجتنا للدولة... ما دامت هي والأيام إلى مصير واحد؟. ‏
لافتة كبيرة على باب نادٍ ليليٍّ: نرحب بالفلسطينيين العائدين من المعركة. ‏الدخول مجاناً! وخمرتنا... لا تُسْكِر!
لا أستطيع الدفاع عن حقي في ‏العمل، ماسحَ أحذيةٍ على الأرصفة.‏لأن من حقّ زبائني أن يعتبروني لصَّ أحذية ـ ‏هكذا قال لي أستاذ جامعة!.
‏أنا والغريب على ابن عمِّي. وأنا وابن ‏عمِّي على أَخي. وأَنا وشيخي عليَّ ‏ هذا هو الدرس الأول في التربية الوطنية ‏الجديدة،
في أقبية الظلام. ‏من يدخل الجنة أولاً؟ مَنْ مات برصاص العدو، أم ‏مَنْ مات برصاص الأخ؟‏
بعض الفقهاء يقول: رُبَّ عَدُوٍّ لك ولدته أمّك!.‏
لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني أنصارهم ‏العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في ‏التلفزيون!.
‏سألني: هل يدافع حارس جائع عن دارٍ سافر صاحبها، لقضاء إجازته ‏الصيفية في الريفيرا الفرنسية أو الايطالية.. لا فرق؟‏قُلْتُ: لا يدافع!.‏
وسألني: هل أنا + أنا = اثنين؟ ‏قلت: أنت وأنت أقلُّ من واحد!.
‏لا ‏أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف. ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن ‏خلدون.
‏أنت، منذ الآن، غيرك!.

الذين هم مع والذين هم ضد

لسنوات طويلة كنت أظن أن مبعث الخلل في الواقع الفكري والاجتماعي يتأتي عبر نوعية من البشر غير مبالية أو مكترثة بأي شيء فلا يمكن أن تُعدها من اليمين أو اليسار أو حتى من التنويعات الكثيرة بينهما، إذ هي نوعية منسحبة حول ذاتها وليس لها انهمام بالشأن العام إلا من زاوية مصلحتها الخاصة. وقد ترسخت تلك الفكرة لديّ بعد أن قرأت رواية "وقالت ضحى" للأديب بهاء طاهر الذي أكد لي صوابية ما ذهبت إليه، وذلك على لسان بطلة الرواية ضحى التي ذكرت صراحة إن الدنيا لا يضيعها – لا يفسدها- أن يكون هذا ماركسيا متطرفا أو ذاك إسلاميا متشددا؛ وإنما تفقد معناها تماما إذا كان أناسها لا يمكن تصنيفهم بأي حال ويعيشون حالة من اللامبالاة والسلبية والانكفاء حول الذات.
كان عليّ أن أعيد النظر في تلك القناعة بعدما لاحظت أن هناك نوعية أخرى من البشر قد يكونون على قناعة بالشيء ونقيضه في آن واحد؛ فترى الواحد منهم لفترة من الفترات يؤيد فكرة ما أو يتحزب إلى شخص بعينه بشكل مبالغ فيه دون تعقل ولكنه -ولأسباب ذاتية وقد تكون بريئة- ينقلب إلى النقيض أو يجمع بينهما في مركب غريب ومتناقض وغير مسوغ عقليا. ومواقف وأفعال هؤلاء في الحقيقة هي سلسلة من التراجعات المستمرة؛ فما يؤمنون به يتراجعون عنه أو على أحسن تقدير يعلنون حيادهم تجاهه ولأسباب قد تبعث على الضحك. إن الضرر الذي يقع من هؤلاء في كثير من الأحيان يصبح نافذا وأشد وضررا من المنسحبين حول ذواتهم والذين يعلنون صراحة عدم اكتراثهم.
أميرة القهوة