الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

المسيري وفقه الأستاذية.. عامان على الرحيل


تتحدى شخصية عبد الوهاب المسيري ما هو سائد ومستقر في الأذهان من صورة نمطية ومألوفة للمفكر من عدة نواحي: فهو ليس مفكرا رسميا يتولى قائمة من المناصب الحكومية قد تطول أو تقصر والذي يصارع على احتكار الحضور التمثيلي في أي محفل علمي في الخارج والداخل بمناسبة وبدون مناسبة، وهو ثانيا ليس من أولئك الذين يعيشون العلم انفصالا واستعلاء عن الواقع وثقافاته الشعبية وإنما هو ممن يؤمن بأن العالم الحقيقي لابد أن يتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية ويعالج ظواهر يحجم البعض عن معالجتها كالفيديو كليب، ولعل هذا ما جعل فكره حيا كما الواقع الذي استقى منه. أما آية تفرده وتميزه فهو نجاحه في تحطيم هالة المفكر الزائفة بلغته المفارقة للواقع وعبوسه الدائم التي تخلق ما لا يحصى من الحواجز بينه وبين تلاميذه وبينه وبين عموم الناس، أما المسيري فلم يكن يرى إلا وسط جمع من الناس بينهم طلاب ومريدين ومثقفين وباحثين بل أن المشهد لم يكن ليخلو من البسطاء أحيانا إذ ليس عسيرا أن يقترب منه أي إنسان ليحادثه ويجلس إليه، وتقفز إلى ذاكرتي الآن صورة عامل النظافة البسيط في معرض الكتاب الذي ما إن رأى المسيري جالسا إلى طاولته في المقهى حتى اقترب منه وأخبره أنه دمنهوري مثله فما كان من المسيري إلا أن دعاه للجلوس إلى جواره بين طلابه ومريديه، وبرهن عندئذ أنه مفكر البسطاء كما كان حسن فتحي مهندسهم.
كانت المرة الأولى التي تعرفت فيها إلى المسيري عام 2002 حين كان لازال يعقد صالونه الثقافي في منزله والذي انتقل فيما بعد إلى جمعية مصر للثقافة والحوار ومنذ اللحظة الأولى أدركت أني أمام مفكر متفرد فطبيعته الإنسانية من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى بذل الجهد في التنقيب عنها، أذكر أنه بعد مرات من مشاركتي الصامتة في الصالون استجمعت شجاعتي للمرة الأولى وكان الحديث حول الشعر وأخبرته أنني أعشق أشعار ناظم حكمت الشاعر التركي الشهير فتبسم وأجابني بأنه يشاركني عشقه وبادر بإهدائي كتابا من مكتبته يحوي مختارات من شعره؛ فأوجد بذلك مشتركا ما بيننا ألا وهو حب ناظم حكمت.
وعلاقة المسيري بأجيال شباب الباحثين تستحق التأمل والنظر فقد كان المسيري محطة هامة وعلامة في حياة الكثير منهم حتى ليخيل إلىّ إنها محطة لا غنى عنها سواء أكان التتلمذ على يديه بشكل مباشر أو عبر مؤلفاته وكتاباته التي هي حوار مفتوح بينه وبين قرائه فلم يكن يتصنع الكتابة ويأتي بما غمض من التعبيرات والمصطلحات وإنما كان يكتب مثلما يتحدث؛ فتأتي كتابته سلسة عذبة إلى درجة أني كثيرا ما شعرت أثناء قراءتي كتبه أنه يتوجه إلىّ بحديثه شارحا ومفسرا، وهو الإحساس الذي طغى عليّ حين قرأت سيرته الذاتية المعنونة "رحلتي الفكرية في الجذور والبذور والثمر" ولابد أن كل من قرأها قد خرج بشيء قريب مما خرجت به.
أما من تتلمذ على يديه فلابد أنه قد لمس جانبا من فقه الأستاذية أو قل عبقرية الأستاذية المسيرية والتي تتجلى في قدرته على اكتشاف الباحثين المتميزين ولفت أنظارهم إلى بعض جوانب تميزهم التي كثيرا ما تكون غير مكتشفة ويجهل أصحابها وجودها، ولا يتوقف دور المسيري عند حدود لفت الباحث إلى قدراته وإنما يظل يشجعه على إطلاقها وتوجيهها في مسارها فكثيرا ما سمعته يحدث هذا أو ذاك مادحاً فكرة كتبها أو مقترح تقدم به وهنا نصل إلى ملمح هام من ملامح أستاذيته ألا وهي قدرته على تقدير أفكار الآخرين وتثمينها مهما كانت بسيطة ومتواضعة مقارنة بأفكاره هو المفكر الموسوعي وفيلسوف رفض الحداثة. أما جوهر أستاذيته فهي الثقة التي يوليها لتلامذته ولقدراتهم البحثية حين يدعوهم إلى تحدي ما هو سائد ومستقر من أفكار وأطروحات ومحاولة تفسير الظواهر بصورة جديدة فإذا ما أمكن للباحث تحقيق ذلك بصورة جزئية فإن المسيري يدفعه لمزيد من الكشف ويحثه عليه. ولعل تلك الثقة التي تبلغ أحيانا درجة الإيمان هي ما تدفع الباحث أن يثبت للمسيري أنه جدير بثقته ومن ثم لا يألو جهدا ليقدم أفضل ما لديه ليضعه بين يدي أستاذه.
لقد صاغ المسيري إطارا جديدا للعلاقة بين المفكر وتلاميذه في عالمنا العربي وأحسب أن من سيأتون بعده من أساتذة ومفكرين سوف يتأثرون بها.
نشرت بموقع رسالة أون لاين

السبت، 9 أكتوبر 2010

يوم ملحمي في أون إسلام


لحظات حلوة دافئة أمضيتها بصحبة الرفاق في إسلام أون لاين سابقا أون إسلام حاليا بمناسبة إعادة بعث المشروع العملاق الذي أريد له أن يدفن وأبى القائمون عليه إلا الصمود.
بقدر ما كان المشهد مؤلما في شهور الأزمة بقدر ما كان اليوم ملحميا فها هو الموقع ينتفض مجددا ويعلن عن نفسه بقوة.
كل الذين قد غادروا الموقع حضروا ليشهدوا اللحظة الرائعة التي تركت فيّ أعمق الأثر، لحظة تدشين الموقع وإطلاق الحمامات في فنائه الرحب.
يا الله.. في هذه اللحظة تحديدا تلاشت من ذهني كل لحظات المعاناة والألم والتردد الذين عايشتهم في أثناء الأزمة. لم يتبق إلا حبي العميق للمشروع ورغبتي في الاستمرار مع أسرتي الممتدة والمشاركة في دعم الموقع الجديد.
لحظات مضت سريعة وخلفت ورائها ذكريات لن تمحى.

الأربعاء، 23 يونيو 2010

عبد الله دراز..منظر الأخلاق القرآنية


فاطمة حافظ

ولد العلامة محمد عبد الله دراز بقرية محلة دياي إحدى قرى الدلتا في الثامن من نوفمبر 1894 لأسرة علمية عريقة؛ فوالده الشيخ عبد الله دراز الفقيه اللغوي المعروف الذي قدم شروحا لكتاب الموافقات للشاطبي، والذي عهد إليه الإمام محمد عبده بمهمة الإشراف على المعهد الأزهري الجديد بالإسكندرية اطمئنانا إلى علمه وكفاءته.

السيرة العلمية والأثار الفكرية

درس دراز بالأزهر وحصل على الشهادة العالمية عام 1916 وعيّن مدرسا ثم أستاذا للتفسير بكلية أصول الدين، وفي عام 1936 سافر إلى السوربون لاستكمال دراساته العليا وهناك درس على يد كبار المستشرقين مثل: ليفي بروفنسال، لويس ماسينيون، لوسن، حتى نال درجة الدكتوراه في فلسفة الأديان بمرتبة الشرف الأولى عام 1947.

وقد تألفت رسالته من دراستين: الأولى مدخل إلى القرآن الكريم وهي دراسة تمهيدية موجزة حول تاريخ القرآن، والثانية دستور الأخلاق في القرآن الكريم وتقع في حوالي ثمانمائة صفحة، قدم خلالها رؤية متكاملة للنظرية الأخلاقية القرآنية في شقيها النظري والعملي. وإنجاز الرسالة الأساسي أنها استخلصت -للمرة الأولى- الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعها، وقدمت مبادئها وقواعدها في صورة بناء نظري متماسك مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه، وهو ما أحدث انتقالا بها من دائرة التعاليم الوعظية التي تستهدف تقويم السلوكيات إلى الدائرة المعرفية.

لم تنل الدراسة في السوربون والاحتكاك بالمستشرقين من أزهرية الرجل العتيقة واعتزازه بثقافته وتراثه؛ فقد كان مؤمنا بأن مهمة الباحث المسلم تتجاوز إحياء التراث ووصل ما انقطع منه إلى تحديثه والإضافة إليه، ولذلك شرع قبيل وفاته في كتابة مؤلفه (الميزان بين السنة والبدعة) وأراد به أن يُحدث كتاب الإمام الشاطبي (الاعتصام) إلا أن أجله المحتوم لم يمهله أن ينجز مهمته الجليلة.

خلف دراز تراثا فكريا راقيا لم يتجاوز أربعة عشر مؤلفا تراوحت بين الكتب والبحوث، وأهم كتبه: النبأ العظيم، الدين: بحوث ممهدة لتاريخ الأديان. أما بحوثه فأبرزها: الربا في نظر القانون الإسلامي، مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام، حول المؤتمرات العالمية للأديان. وعلى ندرتها فقد شكلت إضافات معرفية سدت فراغا في حقول الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وتاريخ الأديان.

في ظلال الحركة الوطنية

لم يكن دراز من أولئك النفر من العلماء القابعين داخل أقبية الفكر محتجبين عن الواقع وتياراته وإنما هو من المنشغلين بقضايا وطنه وأمته، وللرجل مواقف مشهودة فقد طاف على السفارات الأجنبية بمصر إبان ثورة 1919 محاضرا باللغة الفرنسية التي أصر على تعلمها آنذاك ليشرح قضية بلاده أمام ممثلي الدول الغربية.

وعرف عنه تأييده لإلغاء المعاهدة المصرية الإنجليزية عام 1951 وكان ممن أسهموا في إعداد كتيبة طلبة الأزهر التي انخرطت في مقاومة القوات البريطانية بمنطقة قناة السويس، وفي أعقاب الثورة عرض عليه الضباط الأحرار منصب شيخ الأزهر إلا أنه لم يهرول لقبول المنصب الجليل واشترط الاستقلالية الكافية وأن تطلق يده لإجراء إصلاحات جوهرية بالأزهر، وعندما لم يجب إليهما رفض قبول المنصب.

ومن الاهتمام بقضايا الوطن إلى مناصرة قضايا الأمة؛ فعندما كان بفرنسا جهر بتأييده لحركات التحرر العربية: الفلسطينية والمغربية والجزائرية، وقد توطدت صلاته بوجه خاص مع جمعية العلماء الجزائريين حين شارك في الأنشطة الثقافية والدعوية التي قامت بها في باريس ومن خلالها تعرف على مالك بن نبي الذي طلب منه أن يقدم لبعض كتاباته. كما تواصل دراز مع الإمام عبد الحميد بن باديس في الجزائر حين تدخل لدى الأزهر لقبول الطلبة الجزائريين بالجامعة العريقة.

المعالم الأساسية في كتابات دراز

في مفتتح رسالته "دستور الأخلاق في القرآن" كتب دراز: "فإذا لم يأت عملنا هذا بشيء جديد في عالم الشرق والغرب فلن يكون سوى مضيعة وزحمة وإثقالا" بهذه العبارة قيد الشيخ عملية الكتابة بقيد الإتيان بالجديد والإعراض عن اجترار القديم، وأشار إلى أهم ملمح يميز كتاباته على الإطلاق، أما باقي الملامح فيمكن إيجازها على النحو التالي:

أولا: المدقق فيما كتبه دراز يجده لم يكتب جملاً متراصة بعضها فوق بعض لا تؤدي وظيفة، إلا الوظيفة البلاغية، وإنما هو كمن شيد بناءً لا تستطيع أن تصعد إلى طابقه الأعلى دون المرور على الطابق الأسفل، ولذلك يتعذر الاستغناء عن فقرة واحدة من كتاباته، أو أن نقدم بعضها أو نؤخره كما نفعل مع البعض، ذلك أن فقراته نظمت بإحكام في أنساق مترابطة؛ كل فقرة تبرهن على ما سبقها وتمهد لما بعدها.

ثانيا: غلبة الطابع التجريدي، والتجريد في أصله عملية معرفية قوامها الفصل بين ما هو جوهري وما هو ثانوي وغايتها إقصاء الهامشي الذي لا يحمل دلالة بغرض الوقوف على لب الشيء وجوهره، وبفضل عمليات تجريدية متوالية توصل دراز أن القرآن يعالج موضوعين اثنين: الحق الأسمى والفضيلة، وكل ما تبقى من محتوياته ونصوصه ليست سوى وسائل لتعزيز رسالة القرآن وإعطائها وزنا أكبر.

ثالثا: في كتاباته لا يقفز دراز إلى استنتاجات أو أحكام معينة دون أن يدلل عليها ويسوغها منطقيا، والأدلة لديه بناء محكم يشد بعضه بعضا، وهي على درجات ثلاث: أدلة شرعية، وأدلة تاريخية، وأدلة منطقية عقلية. وتكاثر الأدلة وتدرجها يعني أنه لم يكن يكتفي بسوق الأدلة القرآنية دون أن يعضدها ببراهين منطقية عقلية، فكثيرا ما أرجأ الدليل القرآني إلى ما بعد الدليل المنطقي ليحمل على الاستنتاج بأن المنطق والعقل سيقودان حتما إلى التصديق بالقرآن.

الدين والإسلام

عني شيخنا عناية خاصة ببحث مسألة العلاقة بين الإسلام وغيره من الديانات وله فيها رؤى متميزة جاءت محصلة استنباط مباشر من النص القرآني دون العروج على مؤلفات وسيطة تاريخية أو معاصرة، ونقطة البدء كانت في تحديده لمفهومي الإسلام والدين.

والإسلام كما لا حظ دراز وصف أطلقه جميع الرسل على الديانات التي أتوا بها، وليس وصفا خاصا بالإيمان بما جاء به محمد صلوات الله عليه فهو اسم مشترك جامع بين الديانات السماوية "التي لم تتناولها يد الإنسان بتغيير أو تحريف" وعلى ذلك لا يصلح الإسلام لأن يكون محلا للتساؤل عن العلاقة بينه وبين الأديان السماوية إذ لا يسأل عن العلاقة بين الشيء ونفسه؛ فهاهنا وحدة لا انقسام فيها، كما يقرر دراز.

والإسلام هو الدين الوحيد المقبول، وليس هناك على وجه الأرض سوى دين واحد اعتنقه المؤمنون في جميع الأزمنة والأمكنة، وغير ذلك معناه اتخاذ موقف الرفض بل والإنكار لنصوص القرآن القطعية، ويمضي دراز موضحا أن مفهوم الدين لم يكن مفهوما ثابتا وإنما كل رسالة منزلة كانت تشكل لبنة وعنصرا في تطور المفهوم الذي اكتمل برسالة محمد الخاتمة، وعلى هذا تتساوى جميع الرسالات وكل المرسلين الذين شاركوا في كشف طبيعة ذاك الدين في الفضل، ولا يجوز أبدا لأتباعهم أن يفرقوا بينهم إذ التفريق بين رسل الله كفر، كما لا ينبغي لهم أن يفضلوا بعضهم على بعض؛ فتلك خطيئة تقوض العقيدة من أساسها وتفصم عرى الوحدة التي جعلها الله وتجعل من العواطف والهوى معيارًا للعقيدة.

ويذهب دراز خطوة أبعد موضحا معالم العلاقة بين الكتب المنزلة الثلاثة؛ فيذكر أن هناك مرحلتين للعلاقة: مرحلة ما قبل التبديل ومرحلة ما بعده؛ ففي المرحلة الأولى أتى القرآن مصدقا لما قبله من التوراة والإنجيل، وليس معنى التصديق عدم الإضافة أو التبديل إذ جاء الإنجيل ليحل بعض أحكام التوراة كما أحل القرآن بعضا مما حرمه الإنجيل، وحسب دراز فإن هذا ليس نقضا من المتأخر للمتقدم أو إنكارًاً لأحكامه وإنما هو وقوف بهذه الأحكام عند ظرفيتها التاريخية المناسبة.

أما مرحلة ما بعد التبديل ففيها يتحول القرآن إلى حارس ومهيمن على الكتب السماوية السابقة، ومن مقتضيات الهيمنة ألا يكتفي بتأييد ما ورد فيها من حق وعدل وصدق وإنما يتوجب عليه إبعاد التأويلات ونبذ التفسيرات الخاطئة التي نسبت زورا وبهتانا إليها، وهو بهذا يسدي للبشرية صنيعا بحفظه تراثها نقيا كما هبط من السماء.

القرآن في سورة منه

عرف عن دراز مقارباته القرآنية التي تفرد بها عما سواه ممن سبقوه أو خلفوه، وإنجازه الأساسي أنه استطاع التوفيق بين طرفين يتعذر الجمع بينهما نظريا حين انتظمت مقارباته الآليات المنهجية (الموضوعية) والتجربة الإيمانية (الذاتية) على حد سواء فأتت طرازا فريدا في بابها، وتعد نظراته حول فاتحة الكتاب نموذجا لهذا النظم، وهي تجمل منهجه في النظر إلى النص القرآني في كليته وارتباط أجزائه بعضها ببعض، والسعي إلى الكشف عن الوحدة الكامنة فيه خلف الكثرة البادية.

نظر دراز إلى الفاتحة نظرة جديدة فلم يكتف بالوقوف عند حدود آياتها ومعانيها، وإنما نظر إليها في علاقتها بباقي سور القرآن، مفترضا أنها على صغر آياتها تجمل مقاصد القرآن الكلية؛ وأن بقية السور ما هي إلا تفصيل وبيان لذلك الإجمال الذي حوته.

ومقاصد القرآن كما بينها دراز، مقصدان نظريان: هما معرفة الحق ومعرفة الخير، ومقصدان عمليان تثمرهما هاتان المعرفتان؛ فثمرة معرفة الحق هي تقديسه؛ وثمرة معرفة الخير التزامه.

الآيات الثلاثة الأولى من سورة الفاتحة عالجت مسألة التعريف النظري بالحق سبحانه وتعالى وصفاته في شذرات ثلاث انتظمت أركان العقيدة القرآنية في ترتيب بالغ الإحكام: المبدأ فالواسطة، فالميعاد (التوحيد، النبوة، الجزاء) وهي تسفر واقعا عمليا هو العبودية والاستعانة، أما الشق الثاني من السورة فيرتبط بالجانب البشري حين يعرض صور العمل الإنساني: المستقيم والضال والمنحرف ويناقشها على ضوء القيم الخلقية؛ فيجعل من الاستقامة معيارا يحدد للبشرية الصراط الذي ينبغي أن تسلكه ومن استحكمت معرفته بهذا الأصل النظري فإنه يسفر واقعا عمليا هو الهداية مصداقا لقوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم".

على مستوى آخر من التحليل نظر دراز السورة من جهة أسلوب الخطاب مقارنة بعموم الخطاب القرآني؛ فوجد أنها السورة الوحيدة التي أتت على لسان البشرية على حين أتي بقية السور جاءت على لسان الربوبية ويفسر دراز الاختلاف في وجهة الخطاب إلى أن الفاتحة تجسد سؤال البشرية وحاجتها للهدي على حين أن باقي القرآن هو الهدى المطلوب.

ظل الشيخ دراز ممسكا بقلمه حتى انتقل إلى جوار ربه أثناء انعقاد مؤتمر الأديان بلاهور في يناير 1958 إذ لم يمهله الأجل أن يتلو بحثه الأخير أمام المؤتمرين فأحدث رحيله دويا هائلا وفراغا معرفيا مازال شاغرا.

نشر في إسلام أون لاين

http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1209357376129&pagename=Zone-Arabic-ArtCulture%2FACALayout

السبت، 8 مايو 2010

يحيي الرخاوي يكتب عن أزمة اسلام اون لاين: إسلام العدل المحيط؟ أم إسلام العولمةْ المعدّل؟


ليس من حق أحد أن يدعى بعد الآن، أو حتى قبل الآن، أن هناك من يطلق عليهم "أعداء الإسلام" إلا إذا بدأ بالبحث عنهم بين المسلمين أنفسهم. كل الأديان لها نفس الرسالة، وكل من وصلته جوهر الرسالات، له أن يتحلى باللافتة الأقرب إليه، وهو الأحق بها القادر على حمل أمانتها. أظن أن هذا ما فعله شرفاء وشباب الموقع الراحل "إسلام أون لاين"، وهو الذى لم يعجب الممول الذى فى قلبه مرض، فزاده الله مرضا.


أنا لست من هواة زيارة المواقع الدينية أصلا، حيث الغالب فيها، بعد الفخر والهجاء، والقذف والبذاءة، هو احتكار الحقيقة، وبث الفرقة، لكن هذا الموقع كان استثناءً. أول ما سمعت عن إيجابياته سمعتها من ناس طيبين ليست لهم علاقة بالإسلام "الذى هو الحل"، والذى كاد يحل محل الإسلام الحقيقى، بصراحة بعضهم يساريين مسلمين وغير مسلمين (وهل ثم مانع أن يكون اليسارى مسلما؟!)، أخبرنى رهط من هؤلاء الأمناء، بدهشة أو بفرحة، أن هناك موقع اسمه "إسلام أون لاين"، وأنه مصدر متوازن لمعلومات سياسية، وعلمية، واجتماعية جيدة ومفيدة وموضوعية، وأنهم يثقون فيما يقدم هذا الموقع أكثر من ثقتهم فى مواقع كثيرة تدعى الموضوعية، والديمقراطية، وهى تدس السم فى الدسم طول الوقت.

ثم إنى سجلت مع شباب هذا الموقع حوارا أو اثنين، قلت فيهما ما عندى مما أتصور أن به من الاجتهاد ما يحسبه بعض الأوصياء على الإسلام تجاوزا، وإذا بحوارى يذاع مرارا دون حذف حرف واحد، فتيقنت أن شهادة أصدقائي الطيبين كانت فى محلها.

ثم دعتنى قناة تحت الإنشاء اسمها "أنا" إلى تسجيل بعض البرامج بها قبل بدء البث، وفعلت، ثم اكتشفت بعد فترة ما أخفوه عنى – قصدا غالبا- أن هذه القناة هى البث المرئى الفضائى لنفس الموقع "إسلام أون لاين"، وفرحت أن هناك من انتبه إلى أن المهم هو أن يوصل رسالة الإسلام، دون الاختناق تحت سقف ما يشاع عن الإسلام،وحتى دون لافتته، قلت فى حلقات التوعية والنقد والمراجعة هذه، ما لم أستطع أن اقوله فى أى مكان آخر، حتى سموا البرنامج باسمى من فرط سماحهم ("مع الرخاوى")، وتعجبت من وضوح هدفهم، وتنازلهم عن اللافتة مقابل توصيل الرسالة وحمل المسئولية. سألتهم عن الإعلانات، وعرفت أنهم منتبهون قد خططوا للاستغناء عنها تأكيدا للموضوعية وحملا للأمانة كما ينبغى، فسألت المعدتان (سحر، ومروة)، عن التمويل، فلم أحصل على إجابة وافية، ورجحت أنهما لم يكن لديهما إجابة وافية.

ما هذا؟ ماالذى يجرى بالضبط؟ هل الدنيا بخير هكذا؟ وهل ما زال بيننا من يحرص على حمل الأمانة بهذا الذكاء، وتلك الموضوعية؟ بعيدا عن الأسماء والشعارات هكذا؟ الحمد لله، فرحت، برغم توجسى، وتم تسجيل ثلاثين حلقة قبل بداية البث، ثم بدأ البث، وأذيعت حوالى نصف الحلقات، ثم فجأة اتصلت بى "سحر"، أو"مروة"، لا أذكر، وقالت: نحن نشكرك على تعاونك، ونعتذر لعدم بث بقية الحلقات لما تعلمه من أننا توقفنا. توقفتم؟ أهكذا؟ لماذا؟ لم أسألها فأنا أعرف أنها لا تملك الجواب، و حزنت، وترحمت،: "البقاء لله".

لم تمض أسابيع على توقف قناتهم التليفزيونية حتى بدأت أقرأ عن هذه الهجمة الشرسة على الموقع نفسه، تابعت أغلب ما كتب عن ملاباسات التوقف من مؤامرات، وتربيطات، ومقالب، وخيانة، حتى إقالة الشيخ المرجع المستجير بهم، بدأت أفهم:

لم يتحمل أعداء الإسلام (المموِّلين من المسلمين غالبا)، أن ينجح بعض المسلمين فى مخاطبة المسلمين وغير المسلمين برسالة الإيمان، والموضوعية، والحياة، والخير، لم يتحمل أعداء العدل والحق تعالى وكل الأديان، أن تصل الرسالة إلى أصحابها كما ارأدها خالقهم. لم يتحمل أعداء الله والأطفال والمستقبل، أن يقدم الموقع مؤخرا توثيقا علميا دقيقا على موقعيه بالعربية والإنجليزية للجرائم الإسرائيلية التى تحدث فى غزة، وانتهاك المسجد الأقصى تمهيدا لإزالته، ونشر صور المجندات الإسرائيليات يحتللن الحرم الإبراهيمى... إلخ. لم يتحمل أعداء أنفسهم والتطور أن يكشف الموقع سر الثورات البرتقالية والبنفسجية المسخسخة عبر العالم، لم يتحمل العبيد من المسلمين أن يتحرر الإسلام منهم هكذا، ليساهم بإبداعاته الحقيقية فى مسيرة البشر الرشيدة.

وهكذا اكتشفتُ ما عجزت مروة وسحر عن الإجابة عليه: لا بد أن التمويل تم فى غفلة من الممول الذى لم يعمل حساب أن تنقلب المسألة جـِدا حضاريا إيمانيا مشرقا هكذا. أنا على يقين الآن أن التمويل كان مشروطا بأن يقوم هذا الموقع "بالمطلوب"من سادة سادة الممول، "فيسمع الكلام"، ويروج لإسلام تم تحديثه "على مقاس" أعداء الإسلام، وأعداء الله والبشر، لخدمة أغراضهم الاستهلاكية، والاستعمارية الظاهرة والخفية وحين لم يسمع المنفذون الكلام، توقف التمويل، فتوقفت القناة، ثم أوقف الموقع.

وهكذا تعرت القوى المالية التراكمية المغتربة تنبرى لتمويل مثل هذه المشاريع اوهى تحمل لافتات مغرية هكذا، وظهرت على حقيقتها وأنها قوى مشبوهة إن غفلت عن تحقيق أغراضها باكرا، فهى سرعان ما تنقض على القائمين على التنفيذ إن حادوا عن شروطها ليصبحوا خطرا على مشروعها التخريبى التشويهى الأصلى، وتبين أنه ليس لديها مانع أن تهدم كل ما بنت، لتبحث عن تابعين أكثر غباء، أو قدرة على "سمعان الكلام"!! تعروا ومع ذلك مازالوا عميانا تماما.

الدرس الذى علينا نحن المستضعفين فى الأرض أن نستوعبه: هو أنه لا يمول الحق إلا أصحاب الحق، فباختصار: على المستضعفين فى الأرض أن يبدأوا بامتلاك القوى التى تضمن لهم الاستمرار، وأن يتحلوا بجرعة أكبر من التفكير التآمرى، لعلها تقيهم من مضاعفات حسن النية، والثقة بمثل هذا الطابور الخامس، الذى ما مول هذا الموقع إلا ليهدم الإسلام، ويشوه المسلمين بإظهار أنهم لا يتقنون إلا الصراخ، والتعصب، والقهر، ووأد الإبداع، والتشنج..إلخ، وحين تحول المسار إلى وجه الحق، توقف التمويل، وأقيل الرجل العالم الجليل، تمهيدا لضم الموقع إلى جوقة التشويه والتسطيح والتبرير والتبعيية، ربما تحت لافتة تقول: "إسلام عوْلمى معدل موديل 2010 ".

مرة أخرى

لا مكان فى صراع اليوم لحسن النوايا، ولا للثقة بمصادر مشبوهة مهما خطبوا فى جامعاتنا، أو اجتمعوا على موائد قممهم، ولا ضمان للاعتماد على حماس شباب ذكى طيب مهما بلغت قدراتهم ومهارتهم وإخلاصهم، لا مكان لكل هذا إلا إذا تم الاستقلال الحقيقى، باقتصاد نظيف قادر، وإنتاج قوى منافس، ليتمكن المدافعون عن حقهم فى الحياة، أن يساهموا بكل الوسائل الحديثة فى صد هجمة الانقراض المنذر على أيدى من انفصلوا عن نوعهم الإنسانى مغرورين بسلاحهم، ومؤسساتهم، وإعلامهم، وتعصبهم، ومؤامراتهم.

هذا درس نتعلمه مما حدث: إن الاستقلال المادى القوى هو الممول الأضمن لكلمة الحق وخير الناس، وإن التفكير التآمرى الإيجابى هو ضمان ضد مثل هذه الإهانات والتخريب المفاجئ.

لا بديل عن المثابرة وطول النفس، فكل ما يعملونه، مهما بلغت قوتهم هو زبد يذهب جفاء إن عاجلا أو آجلا، أما ما يمكث فى الأرض وينفع الناس فهو الاستقلال الاقتصادى، والإبداع الفائق، والقوة القادرة، وتعهد الجمال داخلنا وخارجنا طول الوقت.

ولسوف ننتصر.